معركة طوفان الأقصى التي تخوضها المقاومة الفلسطينية، بقيادة حركة حماس وتنظيمها العسكري المجاهد كتائب عز الدين القسّام، بمشاركة سرايا القدس الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي، ومختلف التنظيمات العسكرية الفلسطينية في قطاع غزّة، بدرجات متفاوتة، وانطلقت أحداثها فجر السبت 7 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، بعد نصف قرن على نصر أكتوبر العسكري الذي انتهى هزيمة سياسية واعترافا بالكيان الصهيوني ودولته الغاصبة من مصر كبرى الدول العربية، هي أم المعارك في تاريخ الكفاح الفلسطيني، والنضال العربي من أجل فلسطين وتحريرها، وهي واقعة حقيقية بالمعنى القرآني، "إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة"،
فالواقعة حسب إجماع التفاسير هي القيامة، وما حدث، رمزيا وعلى مستوى هوْل الحدث الذي استيقظت على وقعه مستوطناتُ غلاف غزّة ومعسكراته والدولة الصهيونية برمّتها، هو حدثٌ جلل، بل هو قيامة صغرى في تاريخ الصراع العربي الصهيوني، لا يُنكرها إلا جاحدٌ أو جاهل بذلك التاريخ ووقائعه المتتالية على مدى 75 سنة، سقط فيها ما يزيد على 4200 صهيوني بين قتيل وجريح من العسكريين والمدنيين، ما فاق ضحايا الصهاينة مجتمعين في حربي 1967 و1973، أسرت فيها المقاومة 150 بين مستوطن وعسكري صهيوني، وتم تعطيل جدار العزل العنصري أو جدار المليار دولار، والشيء نفسه لحق منظومة إلكترونية- عسكرية من الأكثر حصانة ونجاعة في المنطقة العربية، وفي كل نواحي الشرق، وربما على المستوى العالمي.
ستؤسّس هذه الواقعة الاستثنائية في سجلات المقاومة الفلسطينية لتوازنات قوة جديدة في الصراع مع الصهيونية وحُماتها وحلفائها الدوليين وأتباعها العرب المطبّعين، وستمهّد الأرضية لفتح جبهاتٍ قديمةٍ في الصراع، كانت في حالة كمون، كالجبهتين اللبنانية والسورية وحتى الأردنية، وأخرى جديدة متأتّية من نتائج ما ستؤول إليه الأحداث والوقائع من "جينوسيد" (إبادة) وتهجير قسري لأهالي غزّة إلى مصر، ودخول قوى إقليمية ودولية المعركة.
هي المعركة التي لم يتوقّع حدوثَها أحدٌ من كبار أجهزة الاستخبارات العالمية، بما في ذلك جهاز المخابرات الأميركية ونظيره الصهيوني الموساد، وهما الأكثر شراسة استعلامية والأعلى مقدرة في تتبع الخصوم وتصفيتهم. وينطبق هذا الأمر على كبار الاستراتيجيين في العالم الغربي وغير الغربي، وعلى مراكز الدراسات الاستراتيجية وعلم المستقبليات التي تعجّ بها المؤسّسات العسكرية والأكاديمية والفضاءات البحثية. وفي هذا السياق، فإن معهد واشنطن، وهو أحد أهم المراكز البحثية الاستراتيجية الأميركية حول الشرق الأوسط والأدنى التي تضع على طاولة الرئيس الأميركي واللجنة الأميركية الإسرائيلية للشؤون العامة (أيباك) تقاريرها، وخلاصة أعمالها البحثية، وخفايا المواقف الجيو- سياسية وتبدّلاتها، وتقدّم التصوّرات والمقترحات العملية، وتقترح السياسات الضرورية والمعالجات الناجعة للأزمات والقضايا الحارقة والمتغيّرات الدولية، لم يستشرف واقعة 7 أكتوبر، وكان آخر نشاط بحثي للمعهد قبل هذا التاريخ تحليل استطلاعات رأي أجراها في الأراضي الفلسطينية في يوليو/ تموز الماضي (2023). كتبت الباحثة في المعهد، فرانسيس ماكدونو، عن نتائجها، في مقالتها "الفلسطينيون أكثر إيجابية من جيرانهم العرب بشأن اتفاقيات إبراهيم وأكثر انفتاحًا على القوى المتنافسة"، "وصلت نسب الذين ينظرون إلى التأثير الإقليمي للاتفاقيات (اتفاقيات إبراهيم) بإيجابية إلى 47% في غزّة و63% في القدس الشرقية. وفي حين أن هذه النسبة تقلصت في الضفة الغربية، إلا أنها كانت مماثلة لتلك المسجّلة في الإمارات في أبريل/ نيسان 2023، وهي أكبر نسبة إيجابية (27%)".
لكن الباحثة تفيد في المقالة نفسها بأنه "فيما يتعلق بإطلاق حركة حماس صواريخ من غزّة على إسرائيل وتأثير هذا العمل على المنطقة، وقعت آراء المستطلعين في الضفة الغربية والقدس الشرقية في منتصف مجموعة المستجيبين، إذ قال 41% منهم إن هذا التطوّر سيكون له تأثير إيجابي "إلى حد ما"، مع العلم أن جولة جديدة من إطلاق الصواريخ قد حصلت في وقت إجراء الاستطلاعات الإقليمية العربية والفلسطينية. وكانت استجابة سكّان غزة بالنسبة إلى الصواريخ هي الأكثر إيجابية (58%) من بين جميع الفلسطينيين الذين شملهم الاستطلاع".
وبقطع النظر عمّا تُظهره هذه الاستطلاعات من تناقضٍ في مواقف الغزّيين بين تأييد "اتفاقيات إبراهيم" التطبيعية التي تقودها وترعاها الإمارات، وقد يكون تنظيم مثل هذه الاستطلاعات يندرج في سياق ترويج تلك الاتفاقيات، وبين الموقف الغالب لدى سكّان قطاع غزّة المؤيد لصواريخ حماس ضدّ "إسرائيل" ومستوطناتها، فإن عدم التقاط أحد أهم المراكز الاستراتيجية الأميركية ممن له علاقات عمل وشراكة في تبادل المعلومات مع وكالة المخابرات المركزية الأميركية وغيرها من الأجهزة الأمنية والعسكرية، بما كانت تعد له "حماس" من عمل عسكري نوعي عملاق وغير مسبوق، في الوقت الذي يُجرى فيه الاستطلاع على قطاع واسع من السكان، هو دليل على الحرفية والدقّة العالية والحيطة والحذر التي بلغها النضال المسلّح الفلسطيني المسنود إلى عدالة القضية التي تأبى الطمس والنسيان.
لقد استطاعت معركة غزّة أن تضرب في مقتل، منذ يومها الأول، الحركة التطبيعية المحمومة التي انخرطت فيها دول عربية كثيرة في مغرب الوطن العربي ومشرقه وخليجه تيمّنا بالاتفاقية الأم معاهدة كامب دافيد المصرية - الصهيونية لسنة 1979 وربيبتها معاهدة وادي عربة لسنة 1994 الأردنية- الصهيونية. واستحالت موضة سياسية عنوانها "اتفاقيات إبراهيم" تقودها دولة الإمارات العربية المتحدة بحماسة لا نظير لها.
ومن نتائج موجة التطبيع العربية اعتراف كل من الإمارات والبحرين والمغرب بدولة الكيان الصهيوني سنة 2020 وتوقيع "اتفاقيات سلام" معها وإقامة علاقات دبلوماسية وتبادل السفارات والسفراء، وفتح قنوات اتصال غير مباشرة عبر الولايات المتحدة بين السعودية والدولة العبرية، كانت ستفضي إلى الاعتراف المتبادل، وممارسة ضغوط شديدة على تونس للالتحاق بصف المطبّعين. ويبدو أن من أفضال ملحمة غزّة الجديدة على السعودية وعلى تونس تعطيل المسار الرامي إلى إدخالهما في التطبيع.
وبعد ممارسة التيار التطبيعي العربي حملة إعلامية وسياسية واسعة يصف فيها طوفان الأقصى بأنها معركة حماس الإخوانية (نسبة إلى جماعة الإخوان المسلمين) لتأثيمها وتجريمها وترسيخها في المخيال الشعبي العربي عملا بعيدا كلّ البعد عن المقاومة الحقيقية، جاء الخطاب الاتصالي والسياسي الأميركي – الصهيوني، والأوروبي الغالب، متّهما "حماس" بأنها تنظيم داعشي لا يختلف في شيء عن تنظيم الدولة الإسلامية المكنّى داعش، وقد استند هذا الخطاب الذي روجّه الرئيس الأميركي إلى كذبة قطع "حماس" الرؤوس والذبح، لكن الإدارة الأميركية تراجعت عن هذه الاتهامات لمّا ثبُت عدم صحّة هذا الادّعاء.
أُريدَ من وصم الأخونة والدعشنة التقليل من أهمية معركة طوفان الأقصى، ومنع التعاطف الشعبي العربي عنها وحصارها دوليا، في انتظار إعداد مخطّط دكّ غزّة دكّا يؤدّي إلى تهجير سكّانها وتحويلهم إلى لاجئين في مصر والدول العربية المجاورة كما كانوا سنة 1948 عشية احتلال العصابات الصهيونية أراضي فلسطين مدعومين من الاستعمار البريطاني الذي مهّد لهم الطريق.
كأن من أهداف واقعة غزّة كشف عورات التيار التطبيعي العربي، والإلقاء به عاريا في مهبّ الريح، لتسقط عنه ورقة التوت، فانكشف أمرُه مجرّد نزوة حكّام وعلامة خضوع وهيمنة صهيونية - أميركية، يرفضها العمق الشعبي العربي في كل الدول العربية رفضا قطعيا، ويعتبر الانخراط فيها جريمة ووصمة عار تتطلّب الملاحقة القضائية وفكّ الارتباط السياسي. كما كان لهذه المعركة النوعية وقع الصاعقة على الحركة الصهيونية العالمية وعلى الكيان الصهيوني الذي يحتلّ أرض فلسطين، ما أدّى إلى اعتراف عُتاة الصهيونية في مجالات السياسة والعسكر والإعلام بأن ما حدث هزيمة "إسرائيل"، وهي الدولة التي لم تعرف الهزيمة منذ ثلاثة أرباع القرن، ويوصَف جيشُها بأنه الذي لا يقهر. يُخفي هذا الاعتراف حجم الهزيمة النفسية وتهشيم رمزيّة التفوّق الصهيوني بما لا يقبل الترميم، ذلك أن أفول نجم المشروع الصهيوني على أرض فلسطين بات يُلاحَظ بالعين المجرّدة، ولا يحتاج إلى عمق دراسة وتحليل أو هرمونيطقا وتأويل.
ولن تفلح العملية العسكرية التي تقوم بها الدولة الصهيونية، والغرض منها إلغاء وجود غزّة من على الأرض، بتعلّة القضاء على حركة حماس، إذ ستُضاف أسماء آلاف الشهداء الفلسطينيين إلى مدوّنة شهداء فلسطين التي تعدّ أكثر من مائة ألف شهيد حسب مركز الإحصاء الفلسطيني، بينما سيُضاف إلى سجلّ دولة الصهيونية الدينية ومجتمعها العسكري الحافل بالإجرام وقتل الأبرياء من الأطفال والشيوخ والنساء وممارسة إرهاب الدولة المنظّم على الشعب الفلسطيني منذ سنة 1948، آلاف جرائم القتل الجديدة والتصفية على أساس الانتماء والهوية واقتلاع شعبٍ من أرضه، سيذكُرها التاريخ جرائم ضدّ الإنسانية وأعمالا وحشيّة لا تسقط بالتقادم.
ترتسم في غزّة وفلسطين ملامح جزائر جديدة تدفع بالشهداء دفعا يُزفّون يوميا بالمئات والآلاف، في سياق مثيلٍ لما حدث على الأراضي الجزائرية بين 1954 و1962 حين ارتقى ما لا يقلّ عن المليون شهيد جزائري منهم 45 ألفا زفّتهم الثورة الجزائرية في يوم واحد. لقد كان التمشّي السائد آنذاك يقوم على ثلاثية المقاومة والشهادة والتحرير، وهذا التمشّي ذاته تلتزمه المقاومة الفلسطينية بحذافيره، مسفّهة أحلام الصهيونية في البقاء على أرض فلسطين إلى الأبد، فاضحة التطبيع والمطبّعين، مؤكّدة أن لا هوية للمقاومة الفلسطينية سوى المقاومة من أجل التحرير، تحرير المسجد الأقصى والقدس وكلّ ذرّة تراب من أرض فلسطين، أرض مهد المسيح والإسراء والرسالات والأنبياء.