إن الذين تمت إقالتهم بعد منتصف الليل (وفق التوقيت النهاري لقلعة قرطاج الأثرية)، والذين أقيلوا من قبلهم، لم يكونوا مجرّد ولاة أو كتّاب دولة أو وزراء، وإنّما هم أبناء "الطائفة المنصورة" "المؤلّفة قلوبهم" الأوفياء الصُدّق الخُلّص الذين آمنوا بمشروع الرجل، منذ سنة 2011 فأسسوا له التنسيقيات واللجان السرية، وعزروه ونصروه واتبعوه وكانوا قادة معركته الانتخابية وحطب نيرانها ورواد حملاته التفسيرية، إلى أن ارتقوا به إلى أعلى المناصب السياسية.
منهم من رسم رقمه الانتخابي بالدهن سنة 2019 على ظهور الدواب، ومنهم من آمن بديمقراطيته القاعدية المحلية وشركاته الأهلية والفتح العظيم الذي تنتظره الانسانية، وبالدستور الذي كتبه الشباب على حيطان الأسواق وعلى الجسور وعلى جنبات الطرقات والثنايا وفي محطات القطارات، واستفتي فيه فريق من الناس فصار طوعا أو كرها مرجع المراجع وقانون القوانين في الدولة التونسية.
وبعد كلّ إعفاء أو إقالة يصاب الجمع ممن تمت إقالتهم بالخرس، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ، بمن فيهم من كان ذا باع يساري أو نقابي، فلا تسمع لهم ركزا، ولا تقرأ لهم موقفا، وقد كان أكثرهم جرأة صاحب ولاية جنوب العاصمة حينما التجأ إلى "الحسبلة" مدوّنا على حائطه "حسبي الله ونعم الوكيل" شاكيا رئيسه إلى خالقه وبارئه، والحسبلة كما هو معلوم في الثقافة الدينية الاسلامية هي دعوة مظلوم على ظالمه.
كلّ شيء يدلّ أن هؤلاء الموظفين المقالين من مناصبهم، والذين ينتظرون دورهم في الإقالة من الفريق الجديد، وما ذلك على الرئيس بعزيز، هم مجرّد أعوان تنفيذ لبرنامج حكم هو من نصيب الرئيس وحده بموجب نص دستور جويلية، وفي الآن نفسه وعلى ما في الأمر من مفارقة، هو من يفتقده.
فأنّى لهؤلاء الموظفين أن ينفّذوا مقولات هلامية جاءت في دستور الرئيس أو في قانوني الصلح الجزائي والشركات الأهلية، وهل للرئيس مشروع آخر عدا تلك المقولات حتى يقع تطبيقه، إذا ما استثنينا الـ 54 وسجن السياسيين وأصحاب الرأي والاعلام والتدوين؟
مازال فريق صغير من السياسيين وأصحاب الأيديولوجيا التقليدية، دون سواهم، يزيّن بعضهم مواقف بعض، الحقائق بيّنة أمامهم، لكنّهم فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ، يعلمون أكثر من غيرهم، بل ويتناجون فيما بينهم، ويسرّون لبعضهم البعض أن سعيهم وراء الرجل كان مشكورا، وأن ما يمنّون به النفس هو ضرب من الخيال، وأن بعد هذه السنوات الثلاث من الحكم المطلق وتمركز السلطة في يد الرئيس وحده لا أمل في النهوض والتقدّم والإصلاح والسيادة والمشاريع الكبرى والعملاقة وتجريم الاستعمار والصهيونية وكشف حقيقة المؤامرات والاغتيالات والقروض والهبات والأموال المنهوبة والمهرّبة وتطهير الادارة، وأن فعل الرجل لا يتجاوز في كل هذه الملفات مستوى الشعارات،
فانظروا أيها النخب السياسية وغير السياسية ماذا أنتم فاعلون للخروج من مأزقكم هذا ووضع أنفسكم على ذمّة شعبكم لنصرته والدفاع عنه بدلا من اللهث وراء السراب والتيه في رمال السياسة المتحرّكة والغلوّ والمكابرة، فالبحث عن البدائل صار في رأس سلّم الأولويات ومن أوكدها، لعلّ الله يجعل بعد هذا مخرجا؟