من الواضح لأي مراقب محايد أن أغلب الخطابات المهيمنة على المشهد الإعلامي تدفع بكل قوة نحو "تونسة" السيناريو المصري(أي تدفع إلى الانقلاب على المسار الديمقراطي والى "بولسة" الدولة ومصادرة الفضاء العام وإرجاعه إلى الحاضنة التجمعية "المعدلة")، ولكن ما ينقص هذا السيناريو هو فقط صناعة "زعيم" يستطيع أن يجمع بين يديه ما تناثر من سلطات "بن علي". ولذلك تسمعون هذه الأيام تغنيا بخصال"هتلر" و"بوتين" و"بشار"و"السيسي"، كما تسمعون "لطميات نوفمبرية" على عهد "الأمن والأمان" الذي حرمتنا منه الثورة.
وكونوا على ثقة من أن هذه الخطابات ستكون من أهم أسباب الحرب الأهلية في تونس -لا قدر الله- اذا ما لم تتدخل الجهات المعنية لتحييدها ومساءلتها (مهنيا وقانونيا أن لزم الامر). فالاستهداف الممنهج للإسلاميين(بل للاسلام ذاته) في خطابات بعض الاستئصاليين الرافضين لحق الإسلاميين في العمل السياسي القانوني، والاستهداف المتنامي للحقوقيين (من طرف النقابات الأمنية ومرتزقة الاعلام) وشيطنة الاحتجاجات الاجتماعية (أي شيطنة العمل النقابي والانحياز المطلق للأعراف)، كل ذلك هو في حقيقته لا يخدم إلا الاستراتيجيات "الارهابية" ( الدفع بقواعد النهضة ذات التكوين شبه السلفي إلى اليأس من الديمقراطية ومن فكرة التعايش و خرافة "المواطنة"، أي جعل جزء من تلك القواعد "مخزونا استراتيجيا" للحركات الجهادية القدر الله )، كما أن هذا المنطق لن يخدم إلا مصالح مافيات التهريب والتهرب الضريبي التي تستفيد من حرف الأنظار عنها وعن علاقاتها المشبوهة بالإرهاب )وذلك باستضعاف الدولة وإنهاكها في معارك"دونكشوتية" بحكم غياب أي وحدة وطنية حقيقية لمحاربة الارهاب، وبحكم غياب أي مقاربة شاملة تتجاوز الدعوات النوفمبرية لحصر المسألة واختزالها في التعاطي الأمني المشرع للتغول النقابي الأمني.)
وأخيرا فإن هذا المنطق (حتى عندما يتولى الدعاية إليه "تقدميون مزيفون") هو دعوة صريحة إلى العودة إلى مربع 13 جانفي 2011 والى الانقلاب الكلي على المكتسبات الهشة للثورة (حتى في مستوى الحقوق الأساسية والحريات العامة)، وهو دعوة إلى قتل البوعزيزي مرة ثانية بإعادة "المنطق" الذي قتله إلى مركز السلطة. ولا شك أن هذه اللحظة "السريالية" هي أمر متوقع (ولكنه ليس حتميا في صورة وجود معارضة حقيقية للمشروع الاستبدادي الجديد) وذلك بعد أن مهدت الدولة العميقة لهذا المشهد الكارثي عبر أذرعها الإعلامية التي عملت على تدجين الوعي العام بأن جعلت من وكلائهم ومرتزقتهم مصدرا موثوقا للمعرفة ومرجعا نهائيا للمعنى"الثوري".