حذرتونسي...ضدّ الاطمئنان ... ولكن دون جزع.

Photo

هنالك ملحمة حقيقية وقعت في مدينة ’بن قردان‘ شارك فيها العسكريون و الأمنيون و المدنيون ضدّ تنظيم 'داعش'. و هي مؤشّر وجود درجة من الوطنية العالية التي دعّمها تضامن كل الجهات مما يعني وجود درجة عالية من الوحدة الشعبية بعيدا عن الجهويات و القبليات و غيرها من العلاقات الماتحت-وطنية من النعرات التي ساهمت في تخريب بلدان عربية شقيقة.

نتيجة ما سبق، تعمّقت فكرة كون الشعب التونسي فريد واستثنائي و سينتصر حتما.هذه الفكرة خاطئة نسبيّا و نرجسيّة قليلا . و رغم كونها قد تساعد ايجابيا على الاحساس بالنخوة و على مواصلة الاستماتة في الدّفاع الا انّه يجب الحذر من هذا كثيرا لأنه قد يكون ايضا عامل طمأنينة يخدّر النخبة و الشعب ( من حسن الحظّ هذا لا يعني شيئا عند الجيش والأمن تقريبا فهما عمليّان أكثر في التعامل مع المسألة ).
هنالك خصوصيّة تونسيّة نعم. ولكنّها ليست فرادة و لا استثناء الى درجة الاطمئنان حول المناعة التامّة.
لا يجب أن ننسى كون تونس هي أوّل مصدّر للدواعش في العالم .و بعض المعلومات تقول ان عدد من لم يستطع السفر منهم كبير أيضا و هم بين ظهرانينا ، كما بينت بن قردان نفسها فكل عناصر داعش الذين حاولوا احتلالها هم من المنطقة على ما يبدو.

الغريب ان الفكرة المتعلقة بالفرادة التونسية موجودة عند النهضة وعند خصومها و يكرّرها الجميع لبعضهم البعض و أمام المواطنين.

ولكن الأغرب انّ النهضة و الترويكا السابقة يقولان ذلك وهم كانوا في الحكم ويعلمون أكثر من غيرهم عدد الدواعش التونسيين الذين سافروا و الذين لم يسافروا . بل ويعرفون ان قيادات من صفوفهم ساندت 'التدوعش ' بطريقة مباشرة و غير مباشرة و لهؤلاء القيادات أتباع في صفوف النهضة نفسها و في صفوف مقرّبين من الترويكا في ما كان يسمى 'لجان حماية الثورة' و غيرها.

و الأكثر غرابة انّ نقاد النهضة يتهمونها هي نفسها بدعم الارهاب (و هي أكبر حزب في البلاد و لها أكبر كتلة برلمانية فيها الآن) ثم يتحدّثون عن الاستثناء التونسي. الى نقاد النهضة أطرح سؤالا : كيف يكون البلد الذي يناصر أكبر حزب فيه الارهاب –كما تقوقون- وصوت له مليون تونسي في الانتخابات بلدا استثنائيا في مقاومة الارهاب؟

هذا على المستوى السياسي الدّاخلي. أمّا على المستوى الخارجي فالأمور سيئة في ليبيا و قد تسوء في أيّة لحظة في الجزائر بسبب النية الواضحة في استهدافها من قبل ' داعش' و الخطط الدولية المعدّة للمنطقة لا تبشّر بالخير.

هل ننتقل من الاستثناء والنرجسية و الطمأنينة الى ضدّها من التعميم و جلد الذات فيولد الجزع؟

لا، ولكن التبصّر و الحذر الشديد واجبان .

لن أتحدّث عن الحذر العسكري و الأمني و المخابراتي طبعا لأنّني لا أفقه فيه شيئا. و لكن هنالك حذر سياسي لا بدّ أن يتطوّر كثيرا الآن : ان أهمذ شكل من أشكال الحذر الذي علينا أن نمارسه هو الحذر من توتّر الحياة السياسية الداخلية الى الدرجة التي قد تسيء الى المقاومة المطلوبة عسكريا و أمنيا و مدنيّا.

كنت في الأيّام الفارطة حذّرت كثيرا من الانزلاق الى العنف السياسي الدّاخلي التي قد يدشّن ما يكون بداية 'حرب أهليّة' و أكدت انه من حسن حظنا لا يوجد سلاح في تونس و لا ميليشيات حزبية كما في غيرها من الدول العربية. ولكن هذا كان ينطبق على ليبيا و اليمن لكن لا ينطبق على سوريا و مصر ومع ذلك نعرف ما تمّ فيهما.هذا أوّلا.

ثانيا ،المعروف في تجارب تاريخية عديدة انه عندما تجهز النفوس للاقتتال قد يحضر السلاح ' بسهولة' خاصة ان كانت هنالك أسلحة عند خلايا نائمة 'داعشية' و مصالح دولية في اشعال الحرب الأهليّة.

و لكن التحذير من هذا الاحتمال الذي يبدو بعيدا لا يعني التخويف السياسي. اذ يمكن للتحذير من احتمال انفلات الأمور داخليا أن يصبح سببا للخوف من اي صراع سياسي سلمي داخلي مما يعني الاذعان للأمر الواقع السياسي وغض البصر عن السياسات القديمة والحالية من باب الخوف على الوطن في حين انها قد تغطّي على أشياء من الضروري معرفتها لمقاومة الارهاب نفسه.في هذه الحالة سوف تتعطّل الحياة السياسية الداخلية و لا يستفيد سوى المتنفذون السابقون و الحاليون من الوضعية و لن تكون النخبة السياسية سندا حقيقيا للجيش والأمن.لهذا السبب أكرّر، لا بدّ من توضيح الرؤية جيّدا : نعم للصراع السياسي و لكن لا للعنف الأهلي.

دون طمأنينة الغرور الاستثنائي التونسي و دون جلد ذات وجزع مقابلين يمكن خوض الحرب على الارهاب و مواصلة حياة سياسية سليمة تكمل المسار الديمقراطي بعقل سياسي واقعي ما أمكن. بينما باي واحد منهما سنسقط اما في طمأنينة زائفة قد يفاحؤها انخرام داخلي طارئ أو في صعوبات أمنية وعسكريّة او في جزع مفرط قد يقتل الحياة السياسية الدّاخليّة.

هل توجد مؤشّرات على احتمال الانجرار الى العنف الأهلي في تونس؟

مع الأسف اقول نعم ولكنها لحسن الحظّ ضعيفة الآن.

أهمّ هذه المؤشّرات هي خطابية وسياسيّة الآن و هي :

• تركيز النهضة و أنصارها و حلفائها في خطاباتهم منذ مدّة على ما يسمّى 'الاستئصال' مما يعني وجود خوف منه قد يؤدّي الى استعداد نفسي للدفاع عن 'الوجود' .

• تركيز جزء من نداء تونس على ضرورة حلّ الائتلاف الحكومي فورا مع النهضة.

• تركيز بعض اليساريين على اعتبار النهضة راعية للارهاب بل و ارهابية ولا فرق بينها و بين داعش.

• الحديث عن ان مبيضي الارهاب موجودون في القصر و الحكومة و مجلس النواب.

• مديح البعض للانقلاب في مصر ضدّ الاخوان ولحفتر في ليبيا و البعض الآخر لخصومهم.

• تعنّت النّهضة في دعم المسلحين في سوريا وفي اتهام روسيا و ايران و تجريم حزب الله مقابل الموقف المضادّ من السعودية وقطر و تركيا و الاخوان.

• الفرح عند بعض خصوم النهضة بأخبار عن نقاشات حول احتمال تصنيف الاخوان تنظيما ارهابيا في مجلس نواب الولايات المتحدة.

• الفرح بمواقف أوباما الأخيرة من السعودية وتركيا.

و لا ننسى:

حرق مقرّ النهضة بمدينة دوز مؤخرّا و اعتداء النهضاويين و حلفائهم السلفيّين سابقا على مقرات و اجتماعات حزبية.

المصادمات بين طلبة اتحادي الطلبة مؤخّرا و توتر العلاقة بينهم عموما منذ مدّة.

طيّب ، في ظلّ أجواء مثل هذه :

تخيّلوا معي ، لا سمح الله ، ان يتمّ اغتيال قيادي يساري آخر الآن من قبل 'داعش'؟

من يضمن لو وقع هذا ألاّ تنفجر الأمور الدّاخلية بتوتّر ردود الفعل بعد أن مرّ اغتيال الشهيدين شكري بلعيد و محمد البراهمي دون ردود افعال عنيفة؟

وتخيّلوا معي ،لا سمح الله أيضا، لو وقعت عملية اغتيال لأحد قادة النهضة من قبل 'داعش'؟

مثل هذا العمل وارد . و قد يكون مخطّطا له في السابق و قد يقع التفكير في تنفيذه بعد معركة بن قردان للخبطة الوضع الدّاخلي و تسهيل الحركة لداعش.

من يضمن لو وقع هذا انّ الأمور لن تتبعثر بسبب ردود فعل النهضاويين و/أو نقّادهم السّياسيين؟

'لا أحد' يريد هذا منّا طبعا ، في الظّاهر، ولكن يجب أن نتوقّع احتمال وقوعه و نحصّن البلاد من ذلك الاحتمال.

يعتقد البعض ان مجرّد التحذير من احتمال الانزلاق نحو العنف لا داعي له .وانّه خطاب سياسي هدفه التخويف و يؤدّي الى سياسة الصمت عمّا ارتكب من أخطاء و'عفى الله عمّا سلف' باسم 'الوحدة الوطنيّة' في مقاومة الارهاب . ولذلك قد يميلون الى التصعيد السياسي في ردّة فعل عن هذا الخطاب.

و يستغل البعض الآخر فعلا هذا التحذير لتحقيق الأهداف التي يخاف منها البعض الأوّل فيستغلّون ممارسة أي تشهير سياسي من قبل نقّادهم للتهويل منه و التخويف به.

و لا بدّ من التفريق بين 'امساك العصا من الوسط' في مسألة العنف الداخلي دون القيام بذلك في مسألة الخلاف السياسي. و رغم اّن المسألة تبدو سهلة نظريّا فانّها قطعا معقّدة عمليّا. و لكن يمكن البدء في تفكيكها من خلال التفريق بين 'الحوار الوطني ' حول العنف و الارهاب و بين 'الجبهة الوطنية' أو'الهدنة الوطنية ' السياسية. ان المطلوب هو الحوار والاتفاق على عدم ممارسة العنف داخليا مهما حصل و على مساندة الدولة في حربها على داعش خارجيّا .و ليس 'جبهة وطنية موحدة ' تحقق وحدة سياسية -عسكرية أو حتى'هدنة سياسيّة' توقف الاختلافات طالما لم يؤدّ ذلك الحوار الى الاتفاق حول تقييم السياسيات وتحميل المسؤوليات .

ان المطروح يشبه 'معاهدة عدم اعتداء' مهما تطور الخلاف السياسي تجنيبا للبلاد احتمال الانجرار الى العنف الداخلي مهما كانت درجته و دعما سياسيا لمجهودها العسكري ضد عدوها الخارجي.

المهمّ عندي هو التالي : ان تحصين البلاد من العنف الداخلي مهما كان احتماله هو بالضبط ما يسمح بتطور الفرز السياسي. فاذا شعر المواطنون بوجود أبسط احتمال لذلك الانزلاق نحو العنف سوف يرفضون كل نقاش سياسي خوفا من توتر الأوضاع الداخلية في البلاد في ظل حرب مفتوحة مع عدوّ خارجي هو ' داعش '.

هنالك اذن مهمة سياسية داخليّة عاجلة لا بدّ من القيام بها : تحصين الحياة السّياسية الدّاخليّة من احتمال العنف مهما بدا ضعيفا وبعيدا ليس بايقاف أو تجميد الاختلاف بل بالعكس حتى يتواصل الاختلاف و النّضال السياسي ولكن في الاطارالسلمي و الديمقراطي.

لا بدّ من اجراء وقائي منذ الآن و لا يجب انتظار 'وقوع الفأس في الرّأس' على ضعف احتماله.

وأقلّ اجراء يجب القيام به : عقد جلسة عاجلة لأهمّ الأطراف السياسية لتثبيت خيار السّلم المدني و اعلان دعم الدّولة في مواجهة الارهاب الدّاعشي في اطار التحضير لمؤتمر مكافحة الارهاب الذي تطالب به قوى عديدة كان أوّلها الجبهة الشعبية.

مع انطلاق الحرب المفتوحة مع 'داعش' أصبح هنالك مشكل حقيقي الآن و نحن قد نكون ندخل مرحلة خاصّة من التاريخ التونسي ربّما :

• والنخبة السياسية الحاكمة والمعارضة لا تبادر بأيّ شيء سياسي 'استثنائي'.

• وهذا الصّمت السياسي غير مقبول و هو قد لا يبشّر بخير و الأحداث تفترض" صدمة سياسية ايجابية ".

• و أقلّ ما يمكن أن يقال في هذا الصمت انّه غريب و دون المستوى.

لا للجزع العسكري و السياسي…
ولكن لا للطمأنينة أيضا…
ولا بدّ من الحذر و الوقاية .

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات