الثّورة التّونسيّة ثورة سّياسيّة وطنيّة : دفاعا عن الثّورة ضدّ جميع أعدائها و‘ضدّ‘ بعض أصدقائها.

Photo

اهداء :

الى كلّ شهداء الثورة من محمّد البوعزيزي... الى محمّد بن بلقاسم .

هل ’كان‘ ما حدث في تونس- و هو لا يزال يحدث- انتفاضة أم ثورة اجتماعيّة أم كان انقلابا عسكريّا أم هو ’مسار ثوري‘؟

لا لم تكن مجرّد انتفاضة و لكنّها لم تكن ثورة اجتماعيّة. و لا لم يكن انقلابا عسكريّا و لكن لا يوجد معنى سياسيّ دقيق لمصطلح ’المسار الثّوري‘...ولكنّها كانت كلّ هذا و شيء آخر ’جديد‘: انّها ثورة سياسيّة بالأساس...تنتظر استكمالات مركّبة.

1- في الانتفاضة :

الانتفاضة هي هبّة جماهيريّة عامّة بهذا القدر أو ذاك يحتجّ فيها الشّعب -أو قسم هامّ منه على الأقلّ - ضدّ السّلطة السياسيّة و القوى الحاكمة في باقي مجالات السلطة .وقد تكون الانتفاضة سلميّة أو مسلّحة و قد تفشل فتبقى انتفاضة فاشلة و قد تنجح فتصبح ثورة .و لكن هنالك ثورة و ثورة. هنالك الثورة الاجتماعيّة وهنالك الثّورة السياسيّة.

2- في الانقلاب العسكري:

الانقلاب العسكري هو أن يتحرّك الجيش أساسا - ومعه قوى الأمن أو قسم منها و لكن قد يكون ضدّها أو ضدّ قسم منها - ضدّ السلطة السياسيّة و القوى الحاكمة. و الانقلاب العسكري مسلّح دائما و لكنّ استعماله للسّلاح يختلف حسب حجم ردّة فعل المنقلب عليهم غالبا. وقد ينجح الانقلاب وقد يفشل.و نجاح الانقلاب يؤدّي عادة -في الانقلابات الكلاسيكيّة- الى تسلّم الجيش أو قسم منه للسلطة .ولكن هنالك انقلاب و انقلاب حسب نوعيّة المشروع السياسي الخارجي و الدّاخلي للمنقلبين .فهنالك انقلابات وطنيّة و أخرى عميلة. وهنالك انقلابات تهدف الى عسكرة الحكم و أخرى تهدف الى تسليم السلطة الى المدنيين لاحقا.

3- في الثورة الاجتماعيّة:

الثورة الاجتماعيّة هي انتفاضة شعبيّة ،سلميّة كانت أم مسلّحة، لا تنجح فقط في الاطاحة بالحكم السّابق و الامساك بالسلطة السياسية بل و تبدأ في تغيير كامل التركيبة السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و العلاقات الخارجية للبلاد .

4- في المسار الثّوري:

عبارة المسار الثوري عبارة مبهمة و تعني كلّ شيء و لا شيء في نفس الوقت. و هي بالتالي يمكن أن تنطبق على حالات عديدة دون أن تدقّق شيئا سوى ترسيخ فعل المسار-الحركة.ان عبارة المسار الثوري هي نفسها عبارة السّيرورة الثوريّة التي يمكن أن تنطبق على كلّ حالات الحراك الشعبي من أبسطها الى أرقاها. كما انّها لا تصبح خاطئة عندما يفشل ’المسار‘ و لا عندما ينجح. فحتّى بعد افتكاك السلطة السياسيّة لا يتوقف المسار و لكنّه يأخذ أشكالا أخرى لا غير. ان التاريخ كلّه هو ،بمعنى ما، مسار ثوري يصارع مسارا ثوريّا مضادّا.

انّ ما حصل في تونس هو مزيج من كلّ ما سبق و لا شيء منه في نفس الوقت بل كان شيئا سياسيّا آخر .


• لقد كانت انتفاضة شعبيّة عميقة بدرجة ما رغم ان أهمّ الفئات المشاركة فيها كانت قسما من سكّان المدن من المتعلّمين يسندهم قسم من مفقري و مهمّشي بعض الأحياء الشعبيّة .و قد غابت الجماهير الرّيفيّة كثيرا رغم انّ المدن الأكثر حراكا كانت أقرب الى الرّيف منها الى المدينة بمعناها الصّناعي-المالي- الاداري.

• لم يخل ما وقع من فعل عسكري. فبينما كانت جماهير شارع بورقيبة تنتفض أمام وزارة الدّاخليّة ، رمز التسلّط البوليسي للسلطة السابقة ،كانت قيادة الجيش و الحرس الرّئاسي و أقسام أخرى تتحرّك ’خلف السّتار‘ و لكن دون هدف عسكرة السلطة الجديدة بل بهدف تسهيل انتقال مدني و دستوري للسلطة أريد له في البداية أن يقف عند حدود بسيطة أفشلها اعتصام القصبة الثاني بإسقاطه لحكومة محمّد الغنّوشي الثانية. كما لم يخل العمل العسكري هذا من التنسيق مع القوى الدّوليّة باعتراف قائد الجيش نفسه و باعتراف زعماء سياسيين متنفّذين بعد ذلك.

• لم تحصل ثورة اجتماعيّة في تونس. لم يتجاوز ما وقع احداث تغييرات على مستوى السّلطة السّياسيّة خاصّة. لم تحصل تغييرات في مستوى العلاقات الاقتصاديّة و الاجتماعية و الثقافية و الدّوليّة .

• و عرف المسار الثوري تموّجات عمقا و عرضا. فمن احتجاحات محلّية تعمّم وطنيّا . ومن التنديد السّلبي تطوّر الى المطالبة باسقاط السلطة. بل و رفع المسار شعارات تهدف الى تحويله الى ثورة وطنية في بعديها الخارجي و الدّاخلي طلبا للكرامة الوطنية و الشغل و الحرّية و المساواة بين الجهات و رفضا للتسلّط و الفساد و غيرهما. لكنّه لم ينجح كثورة اجتماعيّة بل فقط كثورة سياسيّة.

انّ ما حصل في تونس هو ثورة سياسيّة ديمقراطية بالأساس رغم محاولة الالتفاف عليها من قبل السلطة السابقة التي انهزمت سياسيّا بحلّ التجمع الدستوري الديمقراطي و مجلس النواب و مجلس المستشارين و ايقاف العمل بالدّستور و رغم محاولة تحويلها الى ثورة اجتماعيّة من قبل بعض من اليساريين و القوميين في المجلس الوطني لحماية الثورة و رغم محاولة تحويلها الى ثورة اسلاميّة من قبل بعض الاسلاميين بعد انتخابات 2011 .

و رغم دخول القوى الدّوليّة على الخطّ بالتصدّي اليها في البداية (فرنسا...( ثمّ مسايرتها مع دعم أجنحة من السلطة السابقة و شقوق من حزبها ، أو بتشجيعها و لكن في اتجاه محدّد -الولايات المتّحدة و ووكيلها العربي (قطر) و الاسلامي (تركيا( - بهدف تجريب ’دمقرطة الاسلاميين‘ من ناحية و استهداف الأنظمة الوطنية في المنطقة باسم الدّيمقراطيّة ضدّ الشموليّة - الوطنيّة فقط . و هو ما يفسّر انخراط قطر و تركيا في تشجيع تجارب من ’الرّبيع العربي‘ دون أخرى. و هو ما وأد انتفاضة البحرين و هدّأ الحراكين المغربي و الأردني و قتل الثورة اليمنية و دمّر شعبها .

انّ الثّورة التونسيّة - والثورة المصريّة حتّى الانتفاض ضدّ الاخوان المسلمين و قبل الانقلاب العسكري - هي ثورة سياسيّة ديمقراطيّة في عالم معولم لم تطرح غالبية الجماهير المشاركة فيها )والتي كانت شبابيّة بالأساس) على نفسها -رغم شعارات بعض النّخب- لا تغييرا وطنيّا بمعنى ’فك الارتباط‘ الوطني/القومي بالعولمة و لا تغييرات اجتماعية ثوريّة بالمعنى اليساري العربي العام (الشيوعي أو الاشتراكي العربي) و لا تغييرات جذريّة اسلامية لا محافظة )رغم قوّة تيارات الاسلام السياسي المحافظ( و لا تقدّميّة )لا تتجاوز النزعة الاسلامية التقدّميّة الآحاد مع الأسف) ولا تغييرات ليبيراليّة جذريّة تمسّ من المكاسب الاجتماعيّة للدّولة الوطنية رغم ضعفها .

لقد كانت الثورة التونسية ثورة جديدة تعبّر بطريقة جديدة خاصّة عن مصالح و مطامح الطبقات الوسطى الجديدة ) وليس التقليديّة( و نخبها و تمّت خيانتها الأولى خاصّة من القوى السياسيّة الوسطيّة التقليديّة. لقد عبّر عن تلك الخيانة في البداية من التحق بحكومة محمّد الغنّوشي ( الحزب الجمهوري و حركة التجديد ) في وقت كانت فيه الجماهير تطالب في القصبة بمزيد من التجذير الثوري الدّيمقراطي و الاجتماعي . و بعد الانتخابات في 2011 عبّر عنه من التحق بالنهضة التي كانت تأمل في ’الخلافة السّادسة‘ )حزب المؤتمر و حزب التكتّل ).

و من المؤسف انّ التكتّل اندثر تقريبا و المؤتمر تشظّى ثم تحوّل الى حراك ’شعبوي ديمقراطي‘ متذيّل لقوى اقليميّة و معتاش على فواضل حركة النهضة الاسلاميّة وان الجمهوري و المسار الدّيمقراطي واصلا نفس السياسة الذيليّة في ’حكومة الوحدة الوطنيّة‘ . و هنالك قوى سياسية أخرى تعكس فشلا من نوع آخر. انّ حزب آفاق ’لم يفهم‘ - و المسألة ليست مسألة فهم- كون الشعب لم يثر من أجل الليبيرالية و لا من أجل ظهور أحزاب المقاولين على شاكلة ’الوطني الحرّ‘ .

من ناحية أخرى ،ان مشكلة اليسار الشيوعي و القومي العربي لم يستطع الى اليوم فهم الثورة بوصفها ثورة سياسية ديمقرطيّة فلم يقترب حتّى من أهمّ شرائح الطبقات الوسطى ناهيك عن العمّال - الذين بالكاد ينخرطون في العمل النقابي الذي لا يزال عمل موظفين بالأساس- و باقي الطبقات و الفئات الشعبية. وليس أدلّ على ذلك من عجزه حتى على استقطاب مناضلي الأحزاب الوسطية الفاشلة التي تفضّل الاستقالة من السياسة أو الالتحاق بأحزاب اليمين أو تكوّن لها حزيبات و جمعيّات خوفا من ’الثورجيّة‘ .

في المقابل، ليس النجاح الجماهيري الذي حققته أو تحققه أحزاب مثل النهضة أو نداء تونس دليلا على ’فهمها‘ الجيّد للثورة بل نتيجة تقديم متبادل للخدمات بين الاسلاميين الذين يهدّدون ’نمط العيش‘ فيدفعون بجماهير عريضة الى الاحتماء بالنّداء و النّدائيين الذين يهدّدون بإعادة النظام فيدفعون بجماهير عريضة الى الاحتماء بالنهضة. و زد على ذلك الاسناد الدولي المالي و السياسي و الاعلامي لكليهما في لعبة محاور دوليّة تتصارع و تتقاطع و تتحالف في وقت يتفقد خصومهم من الثوريين اليساريين و القوميين و الديمقراطيين الاجتماعيين الوطنيين لأبسط مقوّماتها البدائيّة أصلا.

نتيجة كلّ هذه المعطيات الوطنية و الاقليمية و الدولية وصلنا الى ما وصلنا اليه. انتقلنا من حركة الجماهير الثائرة من أجل الشغل و الحرّيّة و الكرامة الوطنية الى ’منطق الثورة ’ المقلوب اسلامويّا و المرتبط بسياسة الديمقراطيين الامريكيين ووكيليهم القطري و التركي الى ’منطق الانقاذ‘ لنمط العيش التونسي المسنود فرنسيّا و ،عجبا، سعوديا و امراتيّا، لنصل الى منطق ’الحوار الوطني ’ ثمّ الى منطق ’حكومة الوحدة الوطنية‘ التي انتهت فعليّا الى حكومة ’ترويكا جديدة‘ لا غير.

و لكن ، ورغم التّدحرج بل و بسببه ، لا بدّ من نوع من ’العناد الثوري‘ النظري الذي عليه أن يستميت في مواصلة انتاج خطاب مركّب يؤثّر على الجانب الشعوري و الفكري و العملي عند الشعب و نخبه الشريفة في اتجاه استكمال مسارات الثورة السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و الدّوليّة . و انّ أوّل ما يجب فعله هو تثبيت حدوث الثورة السياسيّة الديمقراطية ضدّ نخب السلطة القديمة التي تتفّه الثورة و تنال من رمزها القادح محمّد البوعزيزي وتربطها بعربته الفقيرة من باب السّخرية و تعتبره انقلابا أمريكيا أو قطريّا على الوطن و على الحداثة بل و على الجنرال الهارب نفسه .

و في نفس الوقت لا بدّ من محاورة الشرفاء من الثوريين الذين لا يفهمون امكان حدوث ثورة سياسية و لكن غير اجتماعية جذريّة من أجل البحث عن منتصف طريق يجتمع فيه الجميع لمواصلة النّحت على الصّخر بما أمكن حتى لا تتحوّل الحرّيّة السياسية الى وبال على الشعب و حاجياته الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و على كرامته الوطنيّة مّما سيفتح الباب على مصراعية لرهن البلاد الى الخارج أكثر فأكثر من ناحية و الى احتمال القبول حتى بانقلاب عسكري لوقف النزيفين الأمني و الاقتصادي الحيويين خاصّة.

نعم ،كانت ثورة سياسيّة ،و الثّورات قد تكون جزئيّة فلا تمسّ النظام/النّسق بكامله بل تمسّ نسقا مصغّرا من أنساقه الفرعيّة مثلما تحدث ثورة تكنولوجية أو اعلاميّة أو غيرها دون تغيير جذري للنسق الكلّي.

و نعم هي ثورة و أكبر من ’ثورة علي بن غذاهم‘ و ’ثورة عرابي‘ و ’ثورة 1905‘ في روسيا و ’ثورة 1830‘ ثمّ ’ثورة1848‘ في فرنسا و ’ثورة 1919‘ في ألمانيا‘ و غيرها من حيث نتائجها المباشرة على البلد مأخوذا في خصوصيّته و منظورا الى التحوّلات التي عرفها نتيجة لها مقارنة بما تحوّل في مجتمعات تلك الثورات التي لا يشكك أحد في كونها ثورات.

و نعم هي ثورة سياسيّة ووطنية تونسيّة و ان كانت غير خاصة مائة بالمائة. و من يعثر على ثورة وطنية خالصة تماما منذ ظهور الرّأسماليّة فليدلّ التونسيين عليها . و مع كلّ الفوارق طبعا ، فلا الثورة الأنجليزية و لا الفرنسية و لا الأمريكية و لا الروسية ولا الصّينيّة و لا الكوبيّة و لا الجنوب-افريقيّة و لا غيرها سلمت من تأثير و/أو تدخّل خارجي بهذه الدّرجة أو تلك و بهذا الشكل أو ذاك دون أن تكون مطلقا ’مؤامرة أجنبيّة‘ . لقد كانت كلّ تلك الثورات أوروبيّة أو غربية أو أمميّة بمعنى ما و درجة ما.

وإذا كان هنالك من ساير الثورة أو التحق بها أو راهن عليها أو استثمر فيها أو سعى الى توجيهها و حتى لو نجح بدرجة ما ...أو غيره ، فانّ ذلك لا يمنع من كونها بالأساس ثورة تونسيّة وقعت في تونس المنفتحة طوعا وقسرا على أرض العالم و سمائه الصديقتين تارة و العدوّتين طورا زمن عولمة لم يعد يمكن أن يحدث فيها شيء وطني صرف اطلاقا تقريبا حتى في أعظم دول العالم .

و على العموم، اذا كان من المنطقي أن يشكّك تونسيون شرفاء في تعريف الثورة و في تونسيّتها من كثرة حرصهم على نقائها الثوري و /أو بسبب عدم تطابقها مع كراريسهم الثوريّة ، فانّه من المضحك المبكي أن يكون أكبر من يتهم الثورة التونسية بأنها ليست لا ثورة و لا تونسية هم بالذات أنصار الثورة المضادّة ممن تمعّشوا من النظام السابق و أولياء أمره الدّولييّن و يتأسّفون على رحيله و يتمنّون عودته .

17 ديسمبر 2017.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات