الدولة العربية الوطنية...هل هي في مفترق الطرق..؟

Photo

تشهد الدولة العربية الوطنية إنهيارا كاملا على مستوى كيانها التنظيمي والمجتمعي ، فلم تعرف منذ نشوئها إبان معارك الإستقلال تفككا مريبا كالذي تشتعل به اليوم إذ إلتهبت كل أوصالها وأطرافها ينزعات تفتيتية سياسية وصراعات طائفية مزقت نسيج الوحدة الوطنية وأغرت كل قوى النفوذ والإستعمار العالمية بالشره نحو التكالب عليها ومزيد تقسيمها وتجزئتها ، لقد بدا جليا لكل متأمل عقلاني وموضوعي أن الوضع بكامله يتسم بانهيار شامل في البناء الإقليمي العربي وتصاعد موجة التطرّف والإرهاب التي قوضت العديد من الكيانات، وهددت السلم الأهلي والدولي في العديد من الساحات الملتهبة راهنا.

ولقد بدا كذلك أن العقد الذي قام بين النخب الفكرية والسياسية مع القيادات الحاكمة في بدايات عصر الاستقلال انتظم حول هدفين رئيسين هما توطيد البناء المؤسسي للدولة الوطنية وتجذير حضورها المركزي، وتحديث المجتمع في نظمه وتقاليده وأنساقه الثقافية. وفق هذا العقد تبوأ المثقف مكان الصدارة في الوظائف العمومية، وشكّل العمود الفقري للهيكل الإداري للدولة مانحاً الأولوية لاعتبارات التأسيس السياسي للدولة الوليدة على اعتبارات الانفتاح السياسي والتعددية الديمقراطية.

ومع أن النزعة الوطنية ظلت هشة في الغالب في عموم البلدان العربية لأسباب تاريخية ومجتمعية يطول شرحها، إلا أن نمطاً من الهوية الوطنية بدأ بتشكل ويتجذر في أغلب التجارب العربية على شتى الخلفية السياسية التي تبلورت بها نظام الدولة الوطنية الحديثة ، قبل أن ينفجر البناء السياسي بكامله في الدول التي عرفت صدمة التحول الجذري خلال ثورات الربيع العربي التي اجتاحت المنطقة منذ خمس سنوات.

لقد بدا من الجلي أن نموذج الدولة الوطنية قد انهار بالكامل في جمهوريات المشرق العربي الثلاث (العراق وسوريا ولبنان) كما انهار في اليمن وليبيا، وهو مهدد في ساحات عربية أخرى تعرف مخاض التحول السياسي ومصاعب إدارة تعددية النسيج الوطني مظهراً للعجز الواضح عن إنتاج هوية وطنية مندمجة.

ما نريد أن نبينه هو أن الدولة الحديثة كما برزت في التجربة الأوروبية تتشكل من روافد ثلاثة هي: مفهوم «السيادة» بصفتها تأميناً للسلم الأهلي واحتكاراً للعنف (أطروحة هوبز) ومفهوم «الإرادة المشتركة» من حيث كونها تعبر عن الجسم الاجتماعي الكلي، وتعكسه في هياكلها المؤسسية ومنتجها القانوني الذي هو مقوم شرعيتها (أطروحة روسو) الدولة بصفتها مطلقاً كونيا يعبر عن الحرية الفردية والجماعية، ويقدم الصياغة التأليفية لصراعات وتناقضات المجتمع المدني (أطروحة هيجل). ورغم الاختلاف المفهومي والنظري بين هذه الروافد الثلاثة، فإنها تشكل في بنيتها الجدلية المتوترة السياق العام للدولة الحديثة التي أدت بكفاءة مهمات ثلاث محورية: ضمان السلم المدني وخلق هوية قومية منسجمة، وتنظيم الإطار القانوني الملائم لممارسة الحريات العامة للأفراد والتنظيمات الاجتماعية.

ما نعيشه راهناً في الساحة العربية هو عجز أغلب الدول الوطنية القائمة عن أداء هذه المهمات الثلاث الحيوية: فبدلاً من دولة السلم الأهلي، نلمس بروز كيانات مفككة لم تعد قادرة على احتكار العنف، وبدلاً من دولة الهوية الوطنية المندمجة نلمس انفجار الهويات الطائفية والعرقية والقبلية التي تبحث عن صياغات سياسية ملائمة، وبدلاً من الدولة المطلقة الكلية نلمس الانزياح المتزايد بين مطالب الحرية وحقوق الإنسان والكيان المؤسسي للدولة.

في هذا السياق المتأزم يتقلص دور الدين الإدماجي، ويتحول إلى عنصر من عناصر التفتيت والتفكيك بظهور حركات التطرّف الديني ذات المطالَب السياسية والدعوات الطائفية الخصوصية، بينما كان الدين في السابق من اهم مقومات الاندماج الوطني بصفته إطارا حاضنا للتنوع الاجتماعي متعاليا على النزعات الانكفائية المغلقة.

في كتابه الأخير الصادر بالفرنسية حول «الوطنية المغربية»، يتساءل عبد الله العروي حول مستقبل الدولة الوطنية التي نشأت في خضم الحروب الدينية في أوروبا ، معززا فكرة أن الدولة مهما كان شكل نظامها السياسي ليست لها ضمانة الإستمرار بل هي مرشحة للتلاشى في أتون صدامات القوميات والثقافات المتأججة اليوم .

في هذه الظروف يصبح السؤال المطروح هو: هل أن الحُكم على النزعة الوطنية التي هي الأيديولوجيا الطبيعية للدولة سائرة نحو الضعف لتنتهي إلى الانحسار؟

قد لا يكون هذا السؤال خاصاً بالبلدان العربية، فنموذج الدولة الوطنية في الغرب نفسه يتعرض لتحديات عصية، بيد أن الخيارات البديلة المطروحة عالمياً عن الدولة السيادية الكلية ليست متوفرة في ساحات عربية تشهد سيناريو الحرب الأهلية المفتوحة التي فرضت على أرض الواقع حقائق وموازين لم يعد بالإمكان معالجتها بمنطق الفعل السياسي المألوف.

Commentaires - تعليقات
Boutheina Ben Farhat
08/06/2016 11:03
تألق وابداع لا ينضب .... مبارك لك هذا العطاء الثر لكبيرنا الراقي محمد ساسي