محاسبة الجلادين ليست غاية في حد ذاتها ، وهي واقعيا غير ممكنة بمعناها الدقيق ، لأن الأمر متشابك ومعقد ويستحيل الفرز فيه لوجود اختلاف في الدرجة والنوع أي أن التفريق صعب بين من كان "مجبرا" على تنفيذ التعليمات وبين من كان يزيد على ما وصّوه .. وبين من صنع له وضع نفسي واجتماعي على المقاس .
ومن ناحية أخرى في جانب ما ، نجد الجلاد ضحية منظومة فاسدة وثقافة سائدة ضد الإنسانية والحقوق ونظام عمل يؤهل للتجاوزات ويدفع نحو الإجرام ... طبعا لسنا نريد بهذا السياق تبرير الجرائم البشعة أو المساس بحقوق الضحايا التي في مقدمتها المحاسبة ... لأن المجرم العادي في كل الحالات له وضع نفسي واجتماعي ودوافع ولكن ذلك لا يبرر عدم تطبيق القانون ،
ولكن علينا أن نستوعب سياق العدالة الانتقالية ومسارها وغاياتها ونتائجها .
إن العدالة الانتقالية لها أسس ومبادئ وآليات يعرفها أهل الذكر ولسنا في مقام استعراض مضامينها ، ولكن ورغم تعدد تجارب العدالة الانتقالية فإنه لكل تجربة خصوصيتها بالرغم من ثوابت المكاشفة والمحاسبة والمصالحة فإن لكل بلد سياقا وظرفا وله صبغته التي يصبغ بها عدالته ،
إن ما يهمنا اليوم هو أن تدفع هذه التجربة البلد إلى الأمام ، ولن يحصل ذلك إلا عندما يشعر الضحايا أنه تم إنصافهم خاصة على المستوى المعنوي والرمزي ، وهذا مرتبط بردة فعل الجلادين ورموز منظومة الحكم الذي زجّ بهم في هذا المستنقع ،
وهو مرتبط أيضا بمدى قدرة الأطراف السياسية على عدم الزج بتناقضاتهم وصراعاتهم وتجاذباتهم غير الأخلاقية في مسار العدالة الانتقالية والنأي بأنفسهم عن شهية استثمار هذه المحطة المفصلية لتسجيل نقاط ضد خصومهم ،
أما الطرف الآخر المعني بإنجاح أو إفشال هذا المسار فهم عموم النبارة الذين يعتقدون أنه ليس لديهم ما يخسرون فهم متفرغون لتأجيج الأوضاع وتغذية مناخ التنابز والشتم وهم يبيعون خدماتهم لمن يستحقها ويدفع أكثر ،
وشرطهم أن يصب كل شيء في اتجاه تقزيم الثورة وشيطنة مناصريها ،
الشرط الأخير ويتمثل في وجود إرادة سياسية صادقة لدعم مسار العدالة الانتقالية ضمن تخصص هيئتها ،
إن غياب الرؤساء الثلاثة عن حفل افتتاح موقعة استعراض شهادات الضحايا ، أمر يثير الدهشة والاستغراب ، أليست الهيئة قانونية وتعمل ضمن مؤسسسات الدولة التونسية وقد خصصت لها الدولة تمويلا مهما. مهما عظم الخلاف مع رئيسة الهيئة فإن الهيئة كمؤسسة لها رمزيتها وللضحايا اعتبارهم ، إن غياب الرئيس عن حدث مفصلي في تاريخ تونس يقلل من شأن هذه المؤسسة وجدواها وربما يخرج الدولة كطرف من مشروع العدالة الانتقالية ،
إن العدالة الانتقالية إما أن تكون مشروعا مجتمعيا متكاملا يلتف حوله الجميع ، وإلا فإن الجراح ستستمر تنزف ،
كل الأطراف برمتها معنية بطي الصفحة ، لمصلحة الجميع.