لم يكن "الانقلاب" الذي حصل هو ما تبادل الحزبان الاتهامات بشأنه، وإنما هو تغيّر لم يكن يتوقعه أحد، أملاه حساب موازين القوة الداخلية والإقليمية وقرار اتخذه زعيمان بحكم ما يتوفر لهما من الخبرة وما يضمنانه من ولاء لشخصهما بالذات. قرار بتحويل العدو اللدود الذي كان يجري السعي لإقصائه إلى شريك لا غنى عنه في إدارة العملية السياسية وحكم البلاد.
وقد تجسدت الثمار الأولى لهذا الانقلاب إبّان الحملة الانتخابية لتشريعية 2014 عندما أعلن الغنوشي أن حركته مستعدة للعمل ضمن حكومة ائتلاف تضم نداء تونس، ثم ترحم في خطاب له بمدينة سوسة على من كان يعتبره أشد أعدائه ويرفض القيام بهذه الحركة الرمزية إزاءه ألا وهو الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، وفي ذات الوقت وصف الدساترة والتجمعيين ببناة الدولة (جريدة الصباح، 11 و 16 أكتوبر 2014).
وأثناء الخطاب التاريخي الذي اختتم به الحملة الانتخابية في 24 أكتوبر 2014، سعى راشد الغنوشي لإحلال جو من الوئام مع مكونات المجتمع التي كانت معادية له. فقد بدأ بتحية وزارة الداخلية والأمنيين وهاجم الإرهاب بوصفه "نبتة خبيثة وتفسيرا فاسدا للإسلام" وفسّر خروج حكومة الترويكا "بأن تونس أحب إلى النهضويين من السلطة ومن النهضة نفسها"، وتطرّق إلى نزعات التقسيم وما تلحقه من أذى "بالوحدة الوطنية"، وأكد أن الدستور "حسم في مسألة نمط المجتمع وهويته"، مختتما بالقول حرفيا : "نحن الكل توانسة وهذا هو العلم متاعنا".
كان ذلك الخطاب تاريخيا بامتياز وتعبيرا عن قرار حاسم بوضع الفكر السياسي لحركة النهضة ضمن أفق جديد وإطار جديد هو الثقافة الوطنية التونسية الموسومة بالاعتدال والتسامح وإحلال مناخ من الحوار والقبول المتبادل بين مكونات المجتمع التي كانت بالأمس القريب تكن لبعضها أشدّ العداوة. ولئن كانت بعض عناصر هذا الخطاب غير جديدة إلا أنها لم تكن تمثل ركائز ثابتة بالنسبة لحركة ولدت وهي متأثرة بمقولات الإخوان المسلمين.
كان يمكن لهذا التحوّل في الخطاب السياسي لزعيم النهضة أن يمثل لبنة تنضاف إلى الدستور الجديد لإرساء أوسع توافق وطني تحتاجه البلاد لمعالجة المشاكل التي أفضت إلى الثورة والتي حالت الصراعات السياسية والإيديولوجية والاستقطاب حول الهوية دون الشروع في معالجتها. بيد أن التدقيق في سياق الخطاب وما لحقه من التطورات بدءا بتفاهم الشيخين في لقاء باريس الشهير وانتهاء بدعم قيادة النهضة لقائد السبسي كمرشح رئاسي ضد المنصف المرزوقي يبيّن أن الهدف الأساسي لقيادة النهضة خلال سنة 2016 كان التفاهم مع حزب نداء تونس وعلى الأخص مع مؤسسيه بشأن ما يمكن أن يخدم مصلحة الجانبين.
وبدون العودة إلى التفاصيل المتعلقة بحيثيات وصيغ ترتيب هذه العلاقة الجديدة في مستوى رأس السلطة والعلاقة بين قيادة الحزبين وصيغ المحاصصة في توزيع المناصب، فإن الكيفية التي أديرت بها الملفات الكبرى تدل على أن ما بدا لحظة المصادقة على الدستور كتوافق وطني عريض، رغم الخلافات، سرعان ما تمخض عن تفاهم مصلحي ضيّق، بل صفقة سياسية أعاقت تجسيد الغايات النبيلة والمبادئ العظيمة التي وردت بالدستور ومعالجة التطورات الكارثية للأوضاع الاقتصادية والبيئية والاجتماعية ولحالة التجهيزات العمومية منذ سقوط نظام بن علي.
التسوية التي حصلت تضمنت مقايضة تتمثل في تأييد حركة النهضة لسياسة رئيس الجمهورية وتعاونها مع ابنه ووريثه المزعوم على رأس حزب النداء مقابل تطمينات قد تكون أعطيت بالتحكّم في قمقم الدولة العميقة وكبح نوازع الثأر لدى الأطراف التجمّعية واليسارية والقومية "الكافرة" بالنهضة. ربما كانت تونس في حاجة إلى تفهم التذبذب الذي عاشته النهضة أثناء ممارستها للحكم بين المرجعيتين الإخوانية والديموقراطية الليبرالية والى مساعدتها على الخروج من الدائرة الأولى.
والأكيد أن تونس كانت بحاجة إلى مصالحة بين أبنائها ممّن يقبلون بالعمل تحت سقف الدستور، على أن تتمّ في كنف الشفافية والالتزام بمبادئ وخطوات العدالة الانتقالية. لكن التوافق الذي حصل والذي تمّ فيه تشريك أطراف مثل الحزب الوطني الحر بما جمعه من مرتزقة السياسة، إنما كان توافقا انتهازيا داس على كل القيم النبيلة ومقتضيات إنجاح مسار الانتقال الديموقراطي، وهو صفقة سياسية تحققت بابتزاز حركة النهضة مقابل التطمينات بشأن محاسبة التجاوزات التي حصلت في فترة حكمها.
وكان من أولى ثمراتها المصادقة على قانون المصالحة الإدارية والعفو عمن ارتكبوا جرائم سياسية أو اقتصادية في حق تونس والتونسيين دون مساءلة لهم ولا اعتذار منهم.
كذلك استفادت من هذه الصفقة السياسية لوبيات الفساد والتهريب ومحترفو التهرّب، وهو ما كشفت عنه أحداث وملابسات مناقشة وإصدار قانون المالية لسنتي 2017 و2018. فقد عمدت كتلتا النهضة والنداء في مجلس النواب إلى إدخال تغييرات على مشروع حكومة يوسف الشاهد في الحالتين، ولم توافق على مشروع قانون المالية إلاّ بعد تحوير أو إلغاء البنود التي تمكّن الدولة من أسلحة لمكافحة التقصّي الجبائي، بل أن أكبر مقاومة للحرب على الفساد والتي طالبت بها الأحزاب الديموقراطية التقدمية جاءت من قيادتي النداء والنهضة. فقد أنكرتا على حكومة الشاهد استخدام الوسائل الاستثنائية لإيقاف بعض كبار الفاسدين ودعتا إلى ترك المسألة للقضاء، متجاهلين أن المؤسسة القضائية لم تحرك ساكنا منذ 2011 للتحقيق في المعطيات والشبهات الواردة بالملف الذي جمعه المرحوم عبدالفتاح عمر.
ومع ذلك لم يكن توافق الحزبين/القبيلتين من المتانة بحيث يضع حدّا للشعور العميق بعدم الثقة وعدم الاطمئنان للشريك المنافس.
لقد أحدث تفاهم قائد السبسي والغنوشي وما قاد إليه من شراكة بل تواطئ برلماني وحكومي صدمة ومرارة في صفوف الكثير من المثقفين وغيرهم الذين التحقوا بالنداء بسبب عدائه للإسلاميين وأحدثت بذلك شروخا وانشقاقات أضعفت وزن هذا الحزب وجعلته مدينا للنهضة في كل مرة يحتاج فيها للحصول على أصوات النواب أو حتى الناخبين كما حصل في الإنتخابات الجزئية بألمانيا.
فهذه الأخيرة أحدثت صدمة ثانية ضمن من بقوا على ولائهم لابن الرئيس والذين عادوا مجددا للتشكيك في نوايا النهضة وحاولوا تكرار خطاب التقسيم الثنائي للتونسيين الذي نجح قبل سنوات، ومعه الدعوة إلى التصويت المفيد.
وفي هذا السياق أيضا جاءت ضغوط ومناورات الباجي قائد السبسي بين التشكيك في مدنية حركة النهضة قبل تبييض صفحتها مجدّدا، ثم اختبارها في جملة من المسائل منها التمديد لهيئة العدالة الانتقالية التي كانت تحضى بدعم الحركة، ومنها طرح فكرة التسوية في الإرث. وبذلك وضع على المحك مدى قدرة النهضة أو بالأحرى قيادتها على الإلتزام بمرجعياتها التقليدية الإسلامية وبمواقفها ذات الصلة بمسار الانتقال نحو الديموقراطية.
هكذا وعبر مختلف المنعرجات التي مرت بها الحياة السياسية في تونس منذ انطلاق ما سمّي بالحوار الوطني، والى حدّ الساعة، تمّ تقديم المحطات الكبرى على غرار المصادقة على دستور 2014 وكذلك مختلف صيغ الحكم والتفاهمات صلب البرلمان أو الحكومة على أنها تجسيد لمبدإ التوافق.
ومثلما لاحظنا فإن الإلتباس أحاط باستمرار بهذا المصطلح نتيجة فهمين واستخدامين مختلفين لفكرة التوافق. فعندما يتعلق الأمر بخدمة أجندات حزبية محضة واتفاقات سرية على تقاسم النفوذ وتوزيع الغنيمة الوزارية والإدارية، من البديهي أن يعني ذلك تواطؤا وتلاعبا وتجاهلا للأهداف العليا والأحلام المشروعة التي ضحت من أجلها أجيال من التونسيين، ومن الحق والبديهي أن يعتبر هذا التوافق مغشوشا ومدانا، علما بأنه لا يفعل سوى أن يغذي الطاحونة الإيديولوجية للتيار الحداثوي واللائكي المكافح الرافض أصلا لأي اتفاق وأي عمل مشترك مع حركة سياسية ذات مرجعية ثقافية وفكرية إسلامية.
بيد أن هذا الإمكان الواقعي لا ينزع كل قيمة عن فكرة التوافق، فعندما يتعلق الأمر بالمصلحة العليا للوطن وبالإنقاذ الاقتصادي والاجتماعي وإعداد إجراءات إصلاحية قوية وشجاعة لفائدة الأغلبية الشعبية، وعندما يكون ذلك في نطاق الوضوح يتعيّن البحث عن المشتركات وتقريب وجهات النظر وإلقاء معاول الحرب الإيديولوجية والقيام بالتنازلات المطلوبة والاستعداد للتضحيات الموزعة بالعدل ويصبح كل ذلك عنوانا لتوافق يعلو على الوثنيات الإيديولوجية والقبليات السياسية وكذلك على الطائفيات المهنية التي سنتناولها فيما يلي.