شكّل صعود قيس سعيّـد مفاجأة أو حدثا غير مرغوب فيه لدى القسم الأعظم من محترفي السياسـة ومن يعيشون منها وبها، إذ جاءت به ثورة صناديق الاقتراع ضدّ من حسبوها خزانا يتقاسمـون غنائمه. وبالنسبة لنا فهو يمثّل فرصة أو إمكانية لإعطاء نفس جديد للحراك الثوري الذي تاه بعد 2011 في معارك إيديولوجيّـة إقصائية أو وُظّف لغايات هيمنيّة، وكذلك لوضع المسار الانتقالي نحو الديمقراطيّـة على السكّة المناسبة له.
نشير في البداية إلى أنّ هذا النجاح الانتخابي والذي سيتعزّز بالتأكيد خلال الدورة الثانية للرئاسيّـة يبعث رسالة متعددة المعاني ومنها على وجه التخصيص:
أنّ قسما لا بأس به من الشعب التونسي لم يستسلم أمام تدهور أوضاعه المعيشيّة وتحوّل حياته اليوم إلى معاناة متواصلة، ولكنه فقد الأمل في إمكان تدارك ما لحق به في ظلّ المنظومة التي تحكم البلاد منذ 2011 بتركيبات سياسية-حزبيّة مختلفة ولكن بنفس الممارسات الزبائنيّة التي لا تخدم سوى المصالح الفرديّة والفئوية للعصبيات الحاكمة،
لذلك جاء التّصويت له عقابا لمجمل مكوّنات المنظومة المسؤولة مباشرة عن الأداء الكارثي والنتائج المخيّبة سواء في مجال التنمية أو في التشغيل أو في ملف العدالة الاجتماعية ومن ضمنها العدالة الجبائية أو في التعاطي مع ظاهرة الفساد. بل أنّ ردّ الفعل العقابي تجاوز المنظومة الحاكمة ليطال سائر المشاركين في المنظومة السياسيّـة الراهنة، ومن ضمنهم أحزاب المعارضة التي أصاب الغرور أغلبها ورفضت النظر في أخطائها وعجزت عن لجم نرجسيات زعمائها وتوحيد صفوفها.
ومن معاني هذه الرسالة أيضا أنّ هذا التّصويت –الذي لم يكن شبابيّا فقط- بل شارك فيه كبار السنّ مثلنا، ولم يأت من صفوف الرافضين جذريّا للنّسق السياسي الحالي فقط بل كذلك من المثقّفين وأصحاب الشهائد ومن المنتمين إلى الأحزاب الوسطيّة وغيرهم ممن كان لديهم بصيص من الأمل في أن يتمّ فعل شيء ما بالضغط على أهل الحكم قبل أن يداخلهم اليأس من إمكانية التعويل عليهم.
قلت هذا التصويت كان لفائدة مترشح يرمز إلى المبدئيّـة في اتخاذ المواقف، وإلى نظافة اليد، وإلى الاستقامة والتعفّف فضلا عن صفته كمثقّف عبّر طيلة سنوات بأسلوبه غير المألوف وأفكاره اللانمطيّة عن اتّجاهات التيّار الراديكالي الذي يعتمل في صفوف شباب الثورة، واستطاع أن يستقطب كتلة شعبية وضعت ثقتها فيه رغم عدم معرفة أغلبها بعناصر مشروعه وحيثيات مقترحاته، ولكنها اعتبرت أنه يمثّلها بصورة ما ويستبطن معاناتها وينطق إجمالا عن تطلّعاتها،
ومن المؤكّد أنّ قطاعات متفاوتة الوزن من المصوّتين له وجدت نفسها في نقده لاستقالة الدولة عن دورها الإنمائي والاجتماعي أو في دعوته لديمقراطية قاعديّـة، أو في رفقه بالمال العام وخوض لحملته بوسائل بسيطة ودون بهرج مكلف، كما نقدّر أنّ جزءا كبيرا ممّن صوّتوا له وجدوا فيه من يعبّر بلغة العصر عن خياراته القيمية وتحفظاته على مطالب النخبة الحداثويّة بالتوسّع في الحريات الفردية وتوسيع مجال حقوق الأقليات ومفهوم الحق في الحياة إلى الحدّ الذي يهدر حقوق أغلبيّة التونسيين الرافضة لانتهاك مقدّساتها والتساهل مع كبار المجرمين باسم احترام حقوق الإنسـان.
وعلاوة عن دور هذه الدلالات الرمزية في ترجيح كفّة المرشّح للرئاسة الأستاذ قيس سعيّـد فإنّ انتصاره يبعث برسالة لمكوّنات الطيف الديمقراطي والتقدمي كافة، وسطيّة كانت أم يساريّة، وثوريّة أم إصلاحيّـة، رسالة فحواها أنّه ثمّة فرصة وإمكانية لتحقيق التفاعل وإقامة الجسور بين أطروحات ورؤى اعتُبرت إلى حدّ اليوم غير قابلة للالتقاء؛ ولعلّ قيس سعيّد يمثّل إحدى حالات المثقّف والسياسي الذي يرفض أن يكون حبيس منظومة إيديولوجيّـة كليانيّـة منغلقة على حقائقها المزعومة.
هو مثقّف لا نمطيّ، يرفض التبعيّة والكسل الفكري ولا يضيره أن يجمع بين مواقف ومقترحات مستوحاة من مرجعيات مختلفة اشتراكية وليبراليّة وإسلامية وعروبية ووطنيّة تونسيّـة ! لقد سبق لنا في تجربة الاشتراكي التقدّمي ثمّ الديمقراطي التقدّمي أن حاولنا شيئا من هذا القبيل، وعانينا من التحجّر الفكري والتعصّب الإيديولوجي لممثّلي هذه التيّارات التي رمتنا بالتلفيق ونحن نروم التوليف.
وعودة إلى طروحات قيس سعيد والنواة المتحلّقة حوله: أين الضّرر إذا كان كلّ هذا مطروحا للحوار الذي يثري ويبني والذي نأمل أن يُفضي إلى إيجاد مساحة مشتركة يلتقي فيها من هم حريصون على إنقاذ البلاد من أزمتها وإخراجها من الورطة التي أوقعتها فيها سياسات أنانية ولا مسؤولـة؟
نقـدّر ونأمل أن تكون الثقة التي حازها قيس سعيّد والمدعوّة لأن يتسع نطاقها فرصة لا تجوز إضاعتها لانخراط القوى المؤمنة بضرورة انتهاج سياسة لفائدة الشعب في حوار تفاعلي واسع يسمح بإيجاد قواسم مشتركة حول طرق تحقيق أهداف الثورة التي لم تنجز. وفيما يلي نقترح ثلاثة محاور لهذا الحوار مع أنه يمكن أن يشمل غيرها:
• أولا: تقييـم شجاع لأداء المنظومة السياسيّـة التي تدير الشأن التونسي منذ 2011 وبالتالي إعادة النظر في مسلّمات مقولة الانتقال الديمقراطي لا لرفضها وإنما لبيان أوجه القصور والخلل فيها وفي مقدّمتها تجاهل البعد التنموي –ولا أقول الاجتماعي فقط- للانتقال، وتجاهل مشكل الفساد الذي رفضت قيادتا حركة النهضة وحزب النداء الانخراط في محاربته.
لقد تمّ الترويج من قبل أطراف داخليّة وقوى خارجيّة بأنّ المنظومة الديمقراطيّـة التعدديّة التي تؤطّر الحياة السياسيّـة وقواعد الحكم منذ قيام المجلس الوطني التأسيسي كفيلة ليس فقط بتجاوز مرحلة دكتاتورية الحزب الواحد وشخصنة الحكم، وتمكين الرئيس من وسائل الاستبداد، وإنّما كذلك بإيجاد الحلول لباقي مشاكل تونس ومعالجة العوامل التي أدت إلى الثورة.
كانت تلك خدعة أو انخداعا، لا يهمّ، وسرعان ما أصبحت ستارا لتوجّه ليبرالي من نوع جديد ينظّر للتنقيص من الدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة وتركه للمبادرات الحرة لمكوّنات المجتمع الأهلي (أو المدني). نعم جاء مسار الانتقال الديمقراطي مكرّسا لحلم الحرية ومؤسّسا لقواعدها الدستوريّة، ولكن لا شيء غير ذلك.
بقيت معاناة الأغلبيّة الشعبية على حالها، لا بل استفحلت في كلّ المجالات بما في ذلك انهيار المقدرة الشرائية وتدهور حال الخدمات والمرافق العموميّة، بالإضافة إلى استمرار إنتاج بطالة أصحاب الشهائد. ما حصل كان استنباتا لصيغ وآليات اشتغال الديمقراطية الليبرالية الغربيّة في تربة تونسية مخالفة تماما لما عليه بلدان وحضارة المنشأ تربة يرتع فيها المستفيدون من النظام السابق من بيروقراطيين مرتشين وأثرياء مترفين أو فاسدين، ومهرّبين مفسدين، ومضاربين مستكرشين.
تربة يصعب فيها فرض سلطان القانون وتعشّش فيها ثقافة ميّالة إلى تبرير هذه الممارسات أو الاستسلام إليها. وممّا زاد الطين بلّة أنّ من أتوا إلى الحكم من السّجون والمنافي أو الإقامات الجبريّة انخرطوا منذ اليوم الأول في لعبة الصراع الضّاري على السلطة، مستهدفين من دافع عن حقوقهم طيلة محنتهم، ومخيّرين إثر ذلك التموقع في أجهزة الدولة ولو بالعمل مع عديمي الكفاءة، ثمّ انخرطوا في تفاهمات مع زعامة حزب النداء وتوافقات أشركوا فيها «سياسيين» طارئين معروفين بالفساد وعمّروا أحزابهم بمرتزقة السّياسـة؛ كلّ ذلك في تناس للوعود الانتخابية بالعمل من أجل النفع العام وفي تعارض مع ما كان يُنتظر منهم من الانتصار لقيم النظافة والاستقامة و«الأمر بالمعروف والنهي عن المنكـر».
وفي المحصّلة فإنّ المسار الذي انطلق مبشّرا بديمقراطيّة فاضلة ومستقبل أفضل تمخّض عن منظومة ديمقراطيّة فاسدة، منظومة تتطلب العلاج والإصلاح، وهو أمر يصعب تحقيقه باعتماد آلياتها التقليدية.
فمن أجل وضع حدّ لتخريب الديمقراطيّة كما حصل في أعمال مجلس النواب الذي صادق على قانون المصالحة الإداريّـة –سيّء الذّكر- والذي رفض مشاريع فصول اقترحتها حكومة الشاهد في قانون المالية لسنة 2018 لغاية الحدّ من التّفصّي الجبائي والفساد المالي، ومن أجل وضع حدّ لتغوّل وتهوّر قنوات إعلاميّة تخدم اللوبيات المشبوهة وتحترف التضليل، ومن أجل إيجاد وسائل ناجعة للضغط على الحكومات وإلزام أجهزة الرقابة المالية والجبائيّـة والتجاريّة بالقيام بواجبها، سيكون من الضّروريّ إيجاد سلطات مضادة قادرة على التحرّك، ونحن لا ندّعي أنّ لدينا مقترحا محدّدا في ذلك ولكننا ندعو إلى مناقشة فكرة الديمقراطية القاعديّة أو بناء نظام حكم يقلب الهرميّة انطلاقا من المجالس المحليّة كما ينادي بذلك الأستاذ قيس سعيّـد. على أننا لا نرى فيها حلا سحريّا بل هي فقط إحدى الصّيغ التي يمكن النظر في مدى قدرتها على معالجة تشوّهات المنظومة السياسية وفي انعكاساتها على بناء الدولة ووحدتها وقيامها بوظائفها، وربما كانت فائدتها تكمن في دفع كلّ الضمائر الحية إلى البحث عن حلّ ناجع وواقعي لهذه المعضلة.
ثمّة لا محالة موروث إيديولوجي معاد لهذه الفكرة، موروث لا يتأتّى من تقليد الدولة الوطنيّة الذي قام على المركزية القصوى وحسب، وإنّما كذلك من صلب اليسار الماركسي الذي يستعيد النظرية والممارسة اللينينيّة والستالينية القائمة على مركزة القرار داخل الحزب والدولة، ومعلوم أنّ هذا التوجّه داخل التيّار الاشتراكي العالمي كانت له الغلبة على دعاة الديمقراطيّة المجالسيّة وهي التي تمثّل على ما نظنّ إحدى مرجعيات قيس سعيّـد والنواة المحيطة به.
رغم ذلك نرى إمكانية العودة إلى مناقشة هذا التصوّر في ضوء تجربة ما سُميّ بالديمقراطية الاشتراكية وتجربة الديمقراطية الليبرالية التمثيليّة وتجارب الحكم المحلي. ونحن لا نؤمن بأنّ أيّا من هذه الصّيغ يتمتّع بفضيلة مطلقة، ونقدّر أنّ أيّ شكل من الإدارة الديمقراطية يمكن أن يبوء بالفشل إذا لم تتوفّر شروط إنجاحه، ومن بينها مستوى الوعي والتشبّع بالحسّ المدني، ورسوخ الثقافة الديمقراطيّة في صفوف المنتخِبين والمنتخَبين، ولعلّ التجارب السلبيّة التي مرّت بها عدة بلديات منذ انتخاب مجالسها سنة 2019 مصداق لذلك. أمّا عن التجربة البرلمانيّـة فحدّث ولا حرج، إذ رأينا التزكيات تزوّر أو تُشترى، والأصوات تُباع في سوق السياسة، بل رأينا نوّاب بعض الكتل يتمّ شراؤهم كرؤوس الغنم أو يتحوّلون من كتلة إلى أخرى لأغراض نفعيّة وحسابات فيما شاعت تسميته بـ«السياحة الحزبيّـة»، وهولا يعدو أن يكون ارتزاقا سياسيّـا.
• ثانيـا: لا يمكن لإصلاح المنظومة السياسية المتحكّمة في اقتراح التشريعات والمصادقة عليها وفي رسم السياسات وتنفيذها أن ينجح فقط بإرساء الآليات المطلوبة للحكم وتكريس إرادة الناخبين، إذ لا بدّ لذلك من أخلقة الممارسة السياسيّة وترسيخ جملة من القيم والمحاسبة الصارمة على مدى الالتزام بها، ومن بينها نظافة اليد والنزاهة وإعلاء الصالح العام ونبذ عقلية الإقصاء وترويج الشائعات والحكم بناء عليها.
وغير ذلك من أساليب ترذيل الحياة السياسيّـة ودفع الرأي العام إلى إدانة مجمل النخب السياسية والحكم على جميع الأحزاب. وإذا ما تحققت خطوات على هذا الدرب فسننجح في الحدّ من الفساد والتقليل من ظاهرة الزبائنيّة سبيلا للترشّح ولتقلّد المسؤوليات والمناصب، وسنحوّل التوافق من تواطؤ الأحزاب الحاكمة لخدمة مصالحها الضيّقة إلى آلية وإطار يجمع أكثر ما يمكن من الأطراف لخدمة المجموعة الوطنيّة بأسرهـا.
لكن وبما أنّ التذكير بالقيم النبيلة والتربية عليها لا يكفيان لوحدهما، وبما أنّ الفساد يضرب كلّ مفاصل المجتمع والدولة وأنّ شرّه قد عمّ وخرّب سائر القطاعات، فسيكون من الضروري الدفع في أقرب وقت بمبادرة تشريعية لإقرار وتطبيق قاعدة «من أين لك هذا؟» .
• ثالثا: المراجعة النقدية للمسلّمات الحداثويّـة، فهذه ليست عندنا سوى استنساخ للقيم الفردانيّة السائدة في مجتمعات غربيّة مختلفة عن مجتمعنا من حيث النسيج الاجتماعي والثقافي. ومع التأكيد على مواصلة الانفتاح على كلّ إيجابيات الفكر والثقافة الغربيين والإفادة من عوامل قوّة المجتمعات الغربيّة، فانه من الأفضل لنا البحث عن صيغ للتّعامل المرن والأصيل مع المبادئ الكونيّة للحرية والمساواة بحيث يجري تنزيلها على السياق التونسي بمعطياته المعروفة، وعدم التعسّف في فرضها على مجتمع يرفض أكثر من نصفه –بما في ذلك نساؤه- المساس بقانون الإرث، كما ترفض غالبيته الساحقة التساهل مع مرتكبي الجرائم البشعة وإلغاء عقوبة الإعدام أو الإحجام عن تطبيقها بتعلّة احترام مبدإ الحقّ في الحياة أو خضوعا لضغوط بعض الأوساط الغربيّـة.
في كلّ هذا لا يقتصر الشأن على مراجعات للفكر السياسي والإيديولوجيات ولا على الدعوات الأخلاقيّة، فهذه ليست سوى مقدّمات أو أعمال موازية لمبادرات سياسيّـة يمكن أن يتّفق عليها طيف ديمقراطي تقدمي واسع – إذا توفّرت في مكوّناته روح المسؤولية - كما يمكن أن يساهم فيها قيس سعيّد أو أن يقودها إذا ما نجح في الوصول إلى رئاسة الجمهوريـة، وذلك بمقتضى الصلاحيات التي يخوّلها له الدستور.
ويبقى أنّ هذا المسعى لإصلاح المسار الانتقالي نحو الديمقراطية وربطه بتحقيق المطالب الشعبيّة وأهداف الثورة يمثّل تحدّيا حقيقيا، وأنّ نجاحه مشروط في ظلّ المعطيات الحالية بتوفّر سند قويّ داخل التركيبة المنتظرة لمجلس النواب الجديد. إذا ما حصل ذلك سنكون أمام مرحلة جديدة من مراحل الانتقال، وربّما أمام مسار ثوري جديد، ولكن علينا أن ننتظر لنـرى.