الحكومة إستقوت بالمؤسسات المالية، الاتحاد يُعلن التعبئة والكلمة للشعب

Photo

استهداف الأمن الثقافي والاعلامي...المنعرج الأخير

تعمل حكومة الشاهد منذ توليها لمهامها على التسويق لبرنامج الإصلاحات الكبرى الذي سينقذ الاقتصاد الوطني ويخرجه من أزمته المالية من خلال التحكم في التوازنات المالية الداخلية المرتبطة بعجز ميزانية الدولة، والتوازنات الخارجية المرتبطة بعجز الميزان التجاري.

ومنذ الأيام الأولى انطلقت في برنامج اصلاح الوظيفة العمومية والتمهيد لإصلاح الصناديق الاجتماعية والمؤسسات العمومية في إطار ما سمته بالتشاركية التي تؤمّن تواجد المنظمة النقابية كطرف صوري لإخماد واحتواء كل صوت معارض أو مخالف لتوصيات صندوق النقد الدولي، مصمم برنامج الإصلاحات الكبرى.

ويعتبر برنامج إصلاح المؤسسات العمومية حسب مصمّمه وتلامذته المخلصين أن هذه المؤسسات التي تشكو صعوبات مالية أصبحت عبءا ماليا على ميزانية الدولة بعد أن كانت مصدرا لتمويل الميزانية بما يستوجب العمل على التفريط فيها أو تخلي الدولة عن مساهمتها فيها باعتبار أن صيغتها العمومية تقف وراء تردي أدائها وعجزها المالي.

ويعتبر برنامج اصلاح المؤسسات العمومية الذي قدمته حكومة الشاهد أحد اليات تحقيق أهداف صندوق النقد الدولي المتمثلة في الضغط على عجز ميزانية الدولة والتقليص فيه الى حدود 3 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي بصفة تدريجية وذلك الى جانب الضغط على كتلة الأجور وتقليص الاعتمادات الموجهة للدعم.

ويندرج هذا البرنامج في إطار نظرة صندوق النقد الدولي لدور الدولة في المجال الاقتصادي وهو دور يرى الصندوق حسب خلفيته الليبرالية موكولا للقطاع الخاص الاقدر على تسيير المؤسسة وعلى ضمان الجدوى الاقتصادية والمردود المالي في اقتصاد يعتمد على اليات السوق وقانون العرض والطلب بعيدا عن الهاجس الاجتماعي الذي يجب فصله عن مجال الأعمال.

وفي تونس ومنذ الاستقلال اعتمد منوال التنمية على سياسة اجتماعية مندمجة وغير معزولة وسياسة اقتصادية تعتبر فيها المؤسسة العمومية محرّكا أساسيا لتحقيق النمو والتنمية العادلة من جهة، ومن جهة أخرى قاطرة للقطاع الخاص وخاصة للأنشطة التي تتطلب استثمارات ضخمة وتشكل أرضية لدعمه ولتدعيم قدراته التنافسية في منظومة اقتصادية لا تزال في مرحلة التأسيس والهيكلة في اطار استراتيجية تقوم على تقوية استقلال قرارنا الاقتصادي من خلال تقليص تبعيتنا للخارج بما فتح المجال أمام مشاريع ضخمة عمومية في عديد المجالات خاصة في مجال التصنيع.

وقد رافقت هذه الاستراتيجية سياسات تربوية وتعليمية وصحية وفي مجال البنية التحتية تعمل على توفير ظروف نجاح هذه الاستراتيجية التي توقفت في بداية سبعينات القرن الماضي لإقرار سياسة الانفتاح على الاستثمار الأجنبي المباشر الذي رحب به في حكومة الهادي نويرة ومنح امتيازات مالية وجبائية وفي مجال مجلة الصرف على خلفية تأمينه لنقل التكنولوجيا وخلق مواطن الشغل وتأمين اندماج اقتصادنا في الاقتصاد العالمي من خلال التصدير.

وبعد الأزمة المالية لسنة 1986 وتدخل صندوق النقد الدولي تغيرت النظرة للقطاع العمومي ودخلت البلاد في سياسة التقشف في ميزانية الدولة على حساب القطاع العمومي وإرساء منوال تنمية يقوم على تخلي الدولة تدريجيا عن دورها الاقتصادي لفائدة القطاع الخاص من خلال التقشف في الاعتمادات الموجهة للقطاع العمومي ومؤسساته لتشهد البلاد في تسعينات القرن الماضي موجة خصخصة لمؤسسات شكلت مفخرة لاقتصادنا الوطني.

واليوم يعود صندوق النقد الدولي الى تونس بنفس الوصفة القديمة وبنفس الاليات ولكن في مناخ سياسي واعلامي مختلف يسعى الى كشف فشل هذه الوصفة وعجزها عن تقديم الحلول لواقع اقتصادي هش لا يزال في حاجة الى قطاع عمومي قوي تمارس الدولة من خلاله سيادتها الوطنية من خلال إعادة انتاج معادلة اقتصادية، نجحت في السابق وبالتحديد خلال العشرية الأولى بعد الاستقلال، تقوم على ثنائية بناءة وتعايش إيجابي بين القطاعين العمومي والخاص لا يفهمها اليوم خبراء صندوق النقد الدولي الذين يعيشون في مكاتب مغلقة بعيدا عن مشاغل المواطن التونسي وهموم شعب لا يزال يبحث عمن ينجح ثورته التي أطاحت بنظام حكم وأخفقت، على الأقل الى حد هذه الساعة، في الإطاحة بمنوال تنمية صمم على مقاس المستثمر الأجنبي وحاجيات السوق الخارجية والشركات العالمية التي أوكلت للمؤسسات المالية العالمية من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي من جهة، وللمنظمة العالمية للتجارة من جهة اخرى، الترويج لمفاهيم مثل العولمة وفتح السموات وفتح الحدود ... لتكريس هيمنتها على ثروات العالم في اتجاه أحادي يطبقها القوي على الضعيف.

ان التقليص في عجز ميزانية الدولة لا يمر حتما عبر التخلص من المؤسسات العمومية كأحد الحلول التي تشكل حزمة الإصلاحات الكبرى، وذلك باعتبار هشاشة اقتصادنا الذي لا يزال في حاجة الى مؤسسة عمومية يستند اليها القطاع الخاص وتستمد قوتها من احترامها للمعايير الدولية في مجالات التسيير والتصرف لبناء اقتصاد لا يعتمد على التوريد والاستثمار الأجنبي بالدرجة التي وصل اليها اليوم والتي تعكس افلاس منظومة حكم وفشل منوال تنمية.

إننا في ظل المنظومة العالمية الجديدة، التي أفرزتها العولمة وقوانينها، في حاجة الى إرساء معادلتنا الصعبة التي ولئن تعترف بالضغوط المالية وشح ميزانية الدولة لتأمين ديمومة المؤسسة العمومية حسب المعايير الدولية، فانها لا تقبل بتخلي الدولة عنها أو التفريط في مساهمتها فيها وذلك من منظور مفهومنا للسيادة الوطنية الذي يعتبر المؤسسة العمومية إحدى اليات تأمينها في جميع المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمالية.

فاستقلالية القرار السياسي والقرار السيادي بصفة عامة يقوم على وجود قطاع عمومي بمؤسساته ينأى بالدولة عن هيمنة وابتزاز القطاع الخاص بما في ذلك الأجنبي وخاصة القطاع المالي الخاص الذي يجد في حكومة أحاطت بنفسها الفراغ بالقضاء على مؤسساتها العمومية بما في ذلك البنوك العمومية، فريسة سهلة تؤمّن له تفكيك الدولة الوطنية واخضاعها لمصالحه.

فبفضل القطاع العمومي ومؤسساته تضمن الدولة أمنها المالي والنقدي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي بما يضمن للمواطن تأمين حقوقه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي نص عليها الدستور الجديد.

وبصفة عامة فان القطاع الخاص غير معني مثلا بتأمين الأمن التربوي الذي يقوم على مجانية التعليم وتكريس سياسة تربوية تعمل على تحقيق المشروع المجتمعي للدولة الوطنية.

كما أنه غير معني بتحقيق الأمن الصحي، والأمن الاتصالي، والأمن الطاقي، والأمن الجوي، والأمن الصناعي، والأمن الغذائي…

والى جانب كل هذه المجالات التي تعمل حكومة الشاهد اليوم على التخلي عن المؤسسات التي تنشط فيها من منطلق أنها تشكل عبءا ماليا على ميزانية الدولة وعلى المواطن التونسي، فان دور الدولة في تحقيق وتأمين الأمن الثقافي والإعلامي لا يقل أهمية وخطورة من منظور السيادة الوطنية حيث تم الحديث مؤخرا عن تفريط الدولة في مساهمتها في الاعلام العمومي بصفة عامة لنتساءل عن مفهوم الحكومة للإعلام العمومي ودوره في حماية الأمن القومي بصفة عامة.

فقد شكل هذا الملف موضوع خلاف حاد بين الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا عند التفاوض حول تحرير القطاع السمعي والبصري في إطار الاتفاق العام لتجارة الخدمات. ولئن تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية أن المنتوج السمعي والبصري هو بضاعة تخضع لقانون العرض والطلب فقد نجحت فرنسا في فرض موقفها الذي يعتبر أن المنتوج السمعي والبصري لا يمكن أن يخضع لآليات السوق باعتباره يحمل هوية الشعوب وهو ترجمانها للمطالبة بعدم اخضاعه للاتفاق العام لتجارة الخدمات في إطار الاستثناء الثقافي، وهو ما سمح لفرنسا وأوروبا بإقرار سياسة أوروبية عملت على تقوية الاعلام العمومي والقطاع السمعي البصري العمومي والخاص الأوروبيين بتمويل أوروبي ارتقى بفضلها الى مستوى المنافسة العالمية.

اننا اليوم في منعرج تاريخي خطير جند له الاتحاد العام التونسي للشغل كل امكانياته للتصدي لخصخصة عدد من المؤسسات العمومية أو التفريط في مساهمة الدولة فيها. كما جندت حكومة الشاهد كل امكانياتها واستقوت بالمؤسسات المالية الدولية والمستثمر الأجنبي لتبقى الكلمة الأخيرة للشعب التونسي صاحب السيادة بمقتضى الدستور الجديد.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات