جاء التقرير الأخير الذي نشره صندوق النقد الدولي في بداية هذا الأسبوع على موقعه الإلكتروني تحت عنوان «الافاق الاقتصادية لتونس»، حاملا لرسائل طمأنة وتنويه بحكومة الشاهد التي نجحت حسب التقرير في تحقيق مؤشرات تدل على تعافي الاقتصاد التونسي. ولخص التقرير هذه المؤشرات في:
1 – النتائج الاستثنائية التي سجلها القطاع الفلاحي هذه السنة،
2 – تطور عدد السياح الى مستويات لم تشهدها البلاد منذ سنة 2010،
3 – تراجع نسبة التضخم الى 7.5 بالمائة،
4 – تراجع العجز الجاري بنسبة 1 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي.
ولتعزيز هذا التعافي حث صندوق النقد الدولي الحكومة التونسية على:
1 – مواصلة تقليص دعم المحروقات من خلال تفعيل آلية التعديل الالي لأسعار المحروقات،
2 – مواصلة اصلاح القطاع العام من خلال التحكم في الأجور والانتدابات،
3 – مواصلة الترفيع في سعر الفائدة المديرية للبنك المركزي،
4 – والترفيع في القيمة المضافة.
ورغم تبني الحكومة لمثل هذه التقييمات التي تعبر عن وجهة نظر خبراء لا علاقة لهم بالاقتصاد الوطني ولا بمشاغل المواطن ولا بتحديات المرحلة الا عبر الأرقام الرسمية، فقد ارتأينا البحث عن هذا التعافي بعيدا عن الأوراق والتقارير ولكن في حياة المواطن التونسي، وفي نشاط المؤسسات الاقتصادية التونسية، ولدى الفلاح التونسي، والصناعي التونسي، ومسدي الخدمات التونسي.
- فالمواطن التونسي لا يزال يعيش تحت ضغوط ارتفاع الأسعار وتضخم تجاوز 7 بالمائة ليعجز عن تعليم ابنائه وتأمين الرعاية الصحة لهم والأدوية وحاجيات الأسرة الأساسية بما دفع الاتحاد العام للشغل للتهديد بإضراب عام تراجع عنه في بداية هذا الأسبوع بعد «التزام» الحكومة بالزيادة في أجور الموظفين.
- أما المؤسسة الاقتصادية التونسية فهي تعاني من منافسة شرسة في السوق الداخلية في ظل توريد منظم وعشوائي قضى على قدرتها التنافسية وهددها بالافلاس ، وأيضا في ظل تمويل بنكي مجحف أنهكها على مواصلة النشاط، وفي ظل ضرائب واداءات لا تعرف التراجع.
- أما الفلاح التونسي فقد أغرقوه ببذور محورة جينيا وأعلاف موردة قضت على قدراته الإنتاجية وعلى كل أمل في غد أفضل.
- البحار التونسي والحرفي التونسي وأصحاب المهن الحرة والذين ينشطون في قطاع الخدمات دمروا هم أيضا ولا تتذكرهم هذه الحكومة الا عند اعداد مشاريع قوانين المالية لإقرار زيادات في الضرائب والاداءات.
في المقابل فإن التعافي الذي يتحدث عنه تقرير صندوق النقد الدولي نجد آثاره في النصوص القانونية الجديدة التي صادق عليها مجلس نواب الشعب كإطار قانوني لتنفيذ برنامج الإصلاحات الكبرى التي أقرها وقبلتها الحكومة مقابل الحصول على قرض بقيمة 2.9 مليار دولار والرامية الى تخلي الدولة عن دورها الاقتصادي وفتح المجال أمام قطاع خاص أجنبي بعد تدمير قطاع خاص وطني ببرنامج إصلاحات سابقة للصندوق نفذ منذ سنة 1986 وباتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي دخلت حيز التنفيذ في سنة 1995 .
كما نجد اثارا لهذا التعافي لدى السلطة التنفيذية التي انخرطت دون أي تحفظ في تنفيذ برنامج إصلاحات يضرب المؤسسة العمومية والبنوك العمومية التي تشكل العمود الفقري للاقتصاد التونسي ورمزا للسيادة الوطنية.
كما نجد آثاره لدى سلطة نقدية رفعت يدها عن حماية عملة وطنية هي رمز للسيادة النقدية واختصت في تفعيل سلاح الدمار الشامل عبر الترفيع الممنهج في سعر الفائدة المديرية .
التعافي الذي يتحدث عنه صندوق النقد الدولي نجد اثاره ايضا في مبادلات تجارية دمرت النسيج الاقتصادي الوطني وفي عجز تجاري قياسي يتوقع أن يبلغ في نهاية هذه السنة 28 مليار دينار.
التعافي الذي يتحدث عنه صندوق النقد الدولي نجد اثاره أيضا لدى البنوك الخاصة التي تحقق نسب نمو خيالية، ولدى شركات البترول، ولدى الشركات غير المقيمة المستفيدة من قانون الصرف وقانون الاستثمار وقانون المنافسة وكل القوانين الجديدة.
المعروف عن صندوق النقد الدولي في تعامله مع البلدان التي تفتح له أبوابها انتهاجه لسياسة التدرج في احكام قبضته عبر تنفيذ وصفاته وبرامجه «الإصلاحية» المدمرة لكل ما هو وطني من مؤسسات عمومية ومؤسسات اقتصادية وطنية واستثمار وطني، وتخدم مصالح الشركات العالمية ورأس المال العالمي وذلك من خلال اغراق هذه البلدان في التداين الخارجي والتسويق لمؤشرات اقتصادية ومالية تخدم مصالح الأطراف التي يمثلها وتتجاهل المؤشرات التي تترجم حقيقة الاقتصاديات الوطنية على غرار ما نتابعه اليوم في تونس التي تحولت بفضل قوانين صممت وصودق عليها من قبل مجلس نواب الشعب مثل قانون الاستثمار والقانون الأساسي للبنك المركزي وقانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص الى بلد لا مكان فيه لكل ما هو وطني .
لقد اعتبر التقرير الأخير لصندوق النقد الدولي أن السلطة النقدية نجحت في كبح التضخم بفضل سياسة نقدية متشددة تعتمد الترفيع المتواصل لسعر الفائدة وهو اجراء لا يمكن ادراجه الا في خانة الجرائم ضد الاقتصاد الوطني باعتباره يضغط على محركات النمو مثل الطلب الداخلي والاستثمار.
كما اعتبر التقرير أن تراجع العجز الجاري بنسبة 1 بالمائة هو مؤشر للتعافي والحال أنه بلغ مستويات خطيرة تجاوزت 10 بالمائة من الناتج المحلي الاجمالي ولا توجد مؤشرات على إمكانية معالجته بما يؤكد وقوع تونس في قبضة الديون الخارجية والمؤسسات المالية الدولية.
ان الاعتماد على مؤشرات مثل سعر صرف الدينار وعجز الميزان التجاري وعجز ميزان المدفوعات ونسبة التضخم كفيلة بإنارة الرأي العام الوطني حول الوضع الحقيقي للاقتصاد الوطني، وكل ما يدعيه صندوق النقد الدولي والمتواطئون معه في الداخل يدخل في باب التسويق للسراب واضفاء مصداقية مغشوشة ومشوهة على السلطات في تونس.