هناك مفارقة في تونس بين وزن اليسار في المنابر ومواقع الراي وانتاج المعنى وفي الصندوق الانتخابي واخر استحقاق انتخابي في 2019 يظهر انهيار رصيد الثقة السياسية في هذا المكون الاصيل في الساحة السياسية التونسية وقد دفعت هذه الهزيمة الانتخابية وانهيار مشاريع الجبهات اليسارية الى مراجعات هامة لا تخفى عن المتابعة الجدية واهم هذه المراجعات العودة الى التركيز على المسالة الاجتماعية ونقد التحالفات غير الطبيعية التي املتها وحدة الخصومة ولم تفض الى نجاحات تذكر غير تعطيل مسار الانتقال الديمقراطي وتبني الخصم السياسي لنفس لعبة التحالفات غير الطبيعية من باب المناورة وتامين البقاء وترجيح التوازنات.
هي عودة سياسية لاستعادة الجمهور والمكانة والاستعداد للاستحقاقات القادمة او استباقها بعد رحلة عبور صحراء قصيرة. ولقد اتخذت العودة عنوانين: مساندة مطلقة للاحتجاجات الاجتماعية الاخيرة واحياء الذكرى الثامنة لاغتيال الشهيد شكري بلعيد بنفس منوال الاحتجاج وشعاراته.
يسار احتجاجي؟
لا يبدو هذا التوصيف كثير التداول لكن له ما يبرره في سياق الحال فاليسار يسارات وفصائل عديدة فرقتها النظرية والممارسة والارتباطات الخارجية والزعاماتية ووحدتها ظرفيا الخصومة الايديولوجية. نقصد باليسار الاحتجاجي الذي اختار النزول الى الشارع وتسجيل الحضور في كل المناسبات الاحتجاجية وله واجهات حزبية معلومة وسجل حضورا لافتا للاناركية في الاحتجاجات الاخيرة.
جدير بالإشارة ان رهان اليسار على الاحتجاج رهان متعدد الاوجه وهو يقرا الثورة كحالة قطيعة مؤقته بين راس المال والدولة ويراهن على الابقاء على فتيل الاحتجاج مشتعلا لمنع هذه العودة . ويمكن تفسير استدعاء الاشتباك مع النقابات الامنية بعد مساندتها سابقا في اتجاهين غير متعارضين: الخشية من تطبيع الامن مع الانتقال السياسي بشكله الحالي بما فيه استيعاب الخصم السياسي وفقدان السند السياسي الخفي للقوة الامنية داخل الدولة العميقة وعودة العلاقة القوية مع راس المال وان كانت لم تنقطع قط. كما تسعى الى ارباك المؤسسة الامنية وتحييدها في الصراع ضد منظومة حكم لا يتصدره.
الواجهة؟
لقد خسر اليسار الاحتجاجي المنافسة السياسية الانتخابية لكنه لم يخسر مواقعه في الدوائر الوسطى وفي المجتمع المدني وفي المنظمات الوطنية وله قدرة عالية على التشبيك واقتناص التمويل.. . لكن لليسار سلوكا سياسيا ثابتا نسبيا لا يقبل بالشراكة الا وهو يتصدره واجهتها وان لم يتحقق له ذلك عمل على تخريبها او افراغها من محتواها او الانقلاب عليها. ولا اتحدث هنا عن الممارسة المعرفية وانما عن الفعل السياسي المباشر الذي لا يجد حرجا في التنكر للنظرية اذا لم تتحقق له صدارة الواجهة. وما مشكلة الزعامة الا تصعيد لهذا السلوك السياسي الكلاسيكي.