ذكر رئيس الجمهورية قيس سعيد، غلطا، في محاضرته أمس الأربعاء في جامعة إيطالية بروما بمناسبة حفل إسناده شهادة الدكتوراه الفخرية، أنّ عبد العزيز الثعالبي حوكم سنة 1904 بسبب دعوته لتطوير التشريع الإسلامي. وقال: "لم تشذّ تونس كغيرها من البلاد الإعلامية عن الاتجاه الرافض لتطوير التشريع الإسلامي. ويكفي هنا ذكر محاكمة الشيخ عبد العزيز الثعالبي سنة 1904، الذي رفض الجمود الفكري في البلاد العربية الإسلامية وكتب مقالا بمجلة المنار بمصر اتهم فيه العلماء بالجهل والتكبّر".
وقد أخطأ قيس سعيد في استشهاده بهذه الحادثة، فالمقال المذكور لم يوقّع باسم الثعالبي، وقد حوكم، وهو المعروف برفضه للطرقية والسلوك الصوفي في الزوايا وهيمنة الطرق على الرأي العام وحتى على الجامع الأعظم، بسبب ما نقل عنه من شتم بعض "الأولياء".
وكان أنسب لقيس سعيد، في محاضرته، ذكر محنة الطاهر الحداد إثر نشر كتابه "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" في أكتوبر 1930.
لقد نجا عبد العزيز الثعالبي من حكم بالإعدام أصدره ضدّه المجلس الشرعي، بتهمة ثلب الرسول والأولياء. ووقع تأليب عامة الناس عليه، واجتمع حشد كبير معبّأ ضدّ الثعالبي في ساحة القصبة يوم 30 جوان 1904 يهتفون بالموت للثعالبي، وذلك عند عرضه على الكاتب العام للحكومة للحصول على تأييد لحكم المجلس الشرعي وإذن بتنفيذ حكم الإعدام. وقد وقع إثر تدخل المحامي سيزار بن عطار نيابة عن المتهم لدى الكاتب العام للحكومة، إيقاف الثعالبي وإيداعه السجن المدني، وأحيل بعد ذلك إلى محكمة الدريبة من أجل "التجديف وسبّ الدين"، وهو ما أسقط حكم المجلس الشرعي.
ونقلت جريدة الحاضرة، في خبر نشرته تحت عنوان متحامل على الثعالبي، "حكم عادل"، نص الحكم الصادر عليه يوم 23 جويلية 1904 بالسجن شهرين وجاء في حيثياته: "حيث ثبت من الحجج المقامة في النازلة وجود أمرين، الأول استنقاص القرآن الشريف والتكلم بما لا يليق في الديانة الإسلامية، والثاني شتم الدين وهو الذي شهد به عليه حميدة كشك وعمر عجرة والحاج بشير القماطي وأحمد القمار. فالشاهدان الأولان شهدا بأنّهما سمعا من عبد العزيز المذكور في ربيع الثاني الفارط قوله إنّ (عبد القادر الجيلي ابن زنا ويلعن مذهبه ومذهب أبيه) والثالث بأنّه سمع منه في أواخر ربيع الأول الفارط عند طلب امرأة منه صدقة متوسلة بسيدي عبد القادر قوله (يلعن دينك ودين عبد القادر) والرابع بأنه سمع منه في أواخر صفر الفارط قوله في حق المجذوب سيدي علي بن جابر الشريف أنّ (هذا ابن الكلب شوّشني).
وحيث أنّ الجنحة المتسببة عن الشتم المذكور هي التي اعتمدتها المحكمة ليس إلاّ، وكانت الشهادات في شأن ذلك بمواطن متفرقة واتضح من تحريرها ببحث الوزارة صدور هذا الشتم من المتهم المذكور حيث أنّ الشهود الذين حضروا لدى البحث أصرّوا على شهادتهم وأدّوها على عينه وكافحوه بها ولم ينتج من دفاعه بالبحث وبالمجلس ما يبطل تلك الشهادات أو يوهنها. وحيث إنّه لم يبق ريب في أنّ المتهم تعمّد ارتكاب جنحة الشتم الصريح... وحيث كانت هذه الجنحة من الجنح التي نصّ عليها واقتضى تأديب مرتكبها الأمر العلي المؤرخ في 18 مارس 1896، حكم مجلس الدريبة المتركب من رئيسه السيد صالح عباس وعضوية السيد محمد بن بوبكر والسيد العروسي الحداد والكاتب السيد محمد شنيق، حكما نهائيا بسجن عبد العزيز الثعالبي مدة شهرين تبتدئ من تاريخ إيقافه".
مقال المنار
كتب الشيخ عبد العزيز الثعالبي، في رسالة وجهها سنة 1903، إلى صاحب جريدة المنار المصرية الشيخ محمد رشيد رضا، ونشرت المجلة هذه الرسالة دون توقيع، تحت عنوان: "كتاب من صديق إلى صديق في هذه الديار يصف فيه حال بعض الأقطار":
"إنّي بين قوم تتعالى نفوسهم عن الحق وتتجافى جنوبهم عن مضاجع الصدق، لا هم ماتوا فاستراحوا، ولا هم انتبهوا فأراحوا. غشيهم طائف من الجهل جعلهم يتخبطون في بعضهم بعض كالذي يتخبطه الشيطان من المسّ، حتى اضطررت أن اعتصم بحبل العزلة وأنزوي في ركن بيتي على خلاف عادتي التي تعرفها (...) لنا علماء، ولكنهم جاهلون متكبرون متغابنون متغابون وهم آلهتنا، حديثهم بطونهم وتدقيقاتهم ومباحثهم خاصة بعجائب التكايا وكرامات القبور. وعلمهم كعلم آلهة الآشوريين لا يزيد، ولا ينقص ولا يتجدد ولا ينعدم، وهو محصور في تصريف أكل يأكل أكلا !!
إذا قلت لهم إنّ هذه أوهام في أوهام زمجروا واستكبروا، ومزّقوا ثيابهم وطمبروا وصخبوا ولعبوا وبكوا وانتخبوا، وقالوا: هذا آخر الزمان. ووشوا عنك: إنّك كافر لا تؤمن باليوم الآخر واستعانوا عليك بخلطاء العامّة فيسكتونك إمّا طوعا، وإمّا كرها، طوعا إذا وثقت بعجزك عنهم، وكرها إذا وثقوا بقدرتك عليهم فاستعملوا معك سلطة الحكومة التي لا يبخل بها عليهم الدخلاء. "