ذهب كثير من النقاد إلى أن قصيدة كعب بن زهير (المشهورة بالبردة) ، هي بكائية مرة على الجاهلية المفقودة و التي كان فيها كعب ملكا و نجما ساطعا في سماء العرب . و الملك ليس بمعنى الحكم، ولكن بمعنى النجومية والشهرة و التربع على عرش الشعر ... فسعاد التي بانت و أفلت وهجرت ، لم تكن إلا تلك الجاهلية الآفلة بما ملك فيها من خيل ونوق ونساء وجواري وعبيد ، ورثها عن أبيه علاوة على ما راكمه هو ، كشاعر ، وقصيدة واحدة منه لأحد كرماء الجزيرة ، تكسبه مائة ناقة ...
لذلك تسلل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، متنكرا ، وألقى قصيدته التي رثى فيها نفسه ، و رثى مجده الافل أمام النبوة التي هيمنت على ما عداها في جزيرة العرب .
فكل القصيدة رثاء لسعاد المفارقة ،( بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ، متيم اثرها لم يفد مكبول ) و في الأخير ينهيها بطلب العفو ممن أهدر دمه ( نبئت أن رسول الله اوعدني والعفو عند رسول الله مأمول ) ، فعفا عنه النبي ، وخلع عليه بردته ، ولم يكن يخفى عنه صلى الله عليه وسلم ، المعنى الحقيقي للقصيدة : مرثية مرة لقلب مكلوم ، لم يعد له أي خيار الا الاستسلام … ولم تكن مديحا الا عرضا ، فكان أكرم من الشاعر الذي أعطاه بردته ، وباعها لبني أمية ، وتناقلها الخلفاء لتنتهي في متحف باسطنبول ، في يوم الناس هذا ، بعد سقوط الخلافة العثمانية .
كذلك كانت أغنية لطفي بوشناق التي اشتهرت في العشرية الأخيرة ، صحيح أنه لا يمكن مقارنتها فنيا بمستوى قصيده كعب ، فذاك في قمة الابداع ، في قمة عصر الذائقة الشعرية عند العرب ، وهذا نتاج ذائقتنا المتهافتة فنيا و ذوقيا و حتى أخلاقيا .
لكن المقارنة هنا في السياق … سياق التحولات السياسية والاجتماعية التاريخية … الذي كتب قصيده ( خذوا المناصب والكراسي، لكن خلولي الوطن) ، يمتلك حسا مزدوجاً …
فهي من جهة ، هجاء للطبقة السياسية الجديدة ، و تصويرها على تلك الصورة التي خلقها لها الإعلام ابن القديمة : طبقة متكالبة على الكراسي والمناصب ، و لا تهتم للوطن … في حين أن هذا الفن نفسه ، هو من رذل الحرية واعتاش من المال الفاسد ، و بقي مستحوذا على كل مؤسسات الدولة الثقافية ، و حرق كل مركب للتواصل بين اشواق الشعب وبين ثقافته الاصليه …
إن تلك الأغنية ، تتلبس الوطن ، كرداء خاص ، وملكية محرمة على القادمين الجدد … إنها تنزع عنهم الوطنية فهي حكر على تلك الطبقة ومنها لطفي بوشناق المغني ، الذين تقاسموا كل الموائد مع أولائك المستبدين المجرمين ..
لقد كانوا ينهلون من كل انواع الامتيازات ، ثم أحسوا بعد الثورة أنهم لم يعودوا محور اهتمام الكون ، وأن هناك من كانوا بعتبرونهم دون مستوى المواطن ، أصبحوا نجوما في القنوات و يسفهون اوهامهم التي بنوها في ( الأمن والأمان )-
خلولي الوطن ، ارتع فيه كما اشاء ، لأني أنا الوطن … أنا الأولى أن اتصدر الشاشة في كل ساعة وحين …كيف للحفتريش أن يفتكوا بعضا من وقت على الشاشة ولم اعد أنا رب الاهتمام ؟
انهم خربوا ذلك الوطن الذي كان مليئا بالمهرجانات ، و الليالي المخملية ، و الجرائد التي تغطي حركاتنا وسكناتنا و ضرطاتنا … لذلك غناها لطفي بوشناق بكل حرقة وإحساس ..
إنها بكائية على نفسه ومن يمثله …
الوطن عند لطفي وأمثاله ، ركح فسيح ، و جوقة موسيقى ، وخمور فاخرة ، و قدود زاخرة ترقص أمامه .. وتسكر على انغامه .. . فقط لا غير … أما الدواخل و الفقراء و المضطهدون ، فكان لا يسمع عنهم شيئا …
عندما كشفت الثورة ، مدى العهر والحيف الاقتصادي دخلوا في حالة إنكار … والى الان ، يحملون عشر سنوات ، كل الحفر التي نخرتها الديكتاتورية ، الصقوها بعشرية مضطربة و هم في حقيقة الأمر ، السبب الرئيسي في اضطرابها ..
إنه إنكار لتونس الجديدة ، بكاء على تونس التي عاشها ، و تزييف للوعي الذي يصور التنافس بين الأحزاب بطرق ديمقراطية خطيئة ، و اختطاف دولة من طرف ديكتاتور يعطيه الفتات ، و ينعم عليه بدرحة فوق السلم ، ثم يصادر كرامة شعب كامل ، يصور ذلك على أنه فضيلة ..
تلك هي الرسالة الحقيقية لأغنية ( خذوا المناصب)-