أعرف على الأقل ثلاثة رؤساء ديمقراطيين من امريكا اللاتينية كانوا زعماء لأجهزة سرية، ديلما روسيف رئيسة البرازيل السابقة، وجوزيه موخيكا رئيس الاوروغواي السابق، ودنيال أورتيغا رئيس نيكارغوا الحالي، جميعهم من اليسار وجميعهم قاد اجهزة سرية وعصابات ثورية مارست العنف المسلح وتورطت في أعمال قتل وتصفية جسدية، وجميعهم اصبح في بلاده من زعماء التحول الديمقراطي وتسنّموا سدة الحكم في انتخابات حرة ونزيهة وشفافة، ويشكل ماضيهم الثوري العنيف الى اليوم مصدر فخر واعتزاز، ولا احد في بلادهم او خارجها، حتى في أوساط الحركات "اللاعنفية"، ما يزال يدينهم بسبب اعمال اعتبرت جزءًا من الماضي الديكتاتوري الذي لم يترك لمعارضيه سوى رفع السلاح في وجه الظالمين.
لماذا استشهدت بأمريكا اللاتينية، لأن هذه المنطقة من العالم هي مخبر التجارب السياسية في العالم الثالث، وهي منطقة تشبه المنطقة العربية في خصائص كثيرة، من أهمها مسيرة طويلة في التحرر من الاستعمار الغربي الاوربي، ما تزال آثاره وترتيباته مستمرة، ومسيرة صعبة ومعقّدة وشبه مستدامة في مقاومة الديكتاتوريات المدنية والعسكرية، فضلا عن حالة الصراع الفكري والأيديولوجي المحتدمة بين يسار ويمين، ومحافظين وتقدميين، ومقاومة مدنية سلمية واُخرى مسلحة وعنيفة، وفقراء وأغنياء، ودعاة السيادة ودعاة الانفتاح، وهكذا...وهي أخيرا المنطقة التي تطوّر فيها "التحوّل الديمقراطي" أو "الانتقال الديمقراطي" منذ أواخر السبعينيات و أوائل الثمانينيّات من القرن الماضي، قبل ان تنتقل الى بقية بقاع العالم، وتشهد تطبيقات جديدة ومختلفة بحسب السياقات التاريخية والجغرافية والثقافية للشعوب والبلدان.
وفكرة التحول او الانتقال الديمقراطي هي التي سمحت لروسيف وموخيكا وأورتيغا وغيرهم كثر من زعماء الأجهزة السرية والجماعات المسلحة للوصول الى الحكم والمساهمة في ادارة بلدانهم، في إطار ما يسمى ب"المصالحة الوطنية" التي تشكّل الشرط الاول لانطلاق المسار الانتقالي بشكل صحيح، فدون مصالحة وطنية يصعب البناء المستقبلي، والمصالحة الوطنية تعني اعتراف الجميع بالجميع وتسليم الجميع بقواعد اللعبة الديمقراطية في تنظيم الحياة السياسية والعامّة، بما يعني انتفاء ضرورة ممارسة العنف والاستعاضة عنه بالانتخابات الحرة والشفافة والنزيهة.
حديث البعض في تونس هذه الأيام عن الجهاز السري لحركة النهضة، يؤكد تلك الفكرة التي اشرت اليها باستمرار منذ انقلاب 25 يوليو، وهي "هشاشة الفكر الديمقراطي" إما عن جهل أو تجاهل يترجم حالة تعفّن ايديولوجي لم تفلح سنوات الانتقال الديمقراطي العشر في التخفيف من وطأتها ومعالجة آثاراها السلبية، كما يعكس رغبة في تصفية حسابات سياسية بطرق مخالفة لمقتضيات الديمقراطية ومبادئها، كأن يحاسب تنظيم سياسي معارض على امتلاك جهاز سري أيام الاستبداد، فيما لم يكن الاستبداد يسمح ببناء التنظيمات العلنية وقد دفع طيلة عقود من الحكم الفردي التسلطي جميع التيارات السياسية والأيديولوجية المعارضة الى ممارسة السرية وأقدار من العنف…فعل ذلك الدساترة اليوسفيون والقوميون البعثيون واليسار والإسلاميون واخرون..لقد فعلوا ذلك عندما لم تكن المعارضة المدنية السلمية الديمقراطية متاحة، فما بالك بحزب يساهم في قيادة حكم ديمقراطي ويفوز بالانتخابات وقادر على "التمكين" بأساليب سلمية ديمقراطية، فالتمكين في أنظمة الحكم الديمقراطي ليس بدعة، وهو ممارسة عادية في اعرق الأنظمة الديمقراطية..
هناك اسلاميون بلا شك يرفضون الديمقراطية، إما فكريا كحزب التحرير، او عنفيا كداعش، وهؤلاء لا يخفون رفضهم هذا الفكري او العنفي، كما نجد ايضا قوميين ويساريين وحتى دساترة فاشيين يعترضون على الديمقراطية ويعتقدون لدواعي مختلفة انها نظام حكم لا يناسبنا، ولعل بعضهم ممن يعمل على تغيير نظام الحكم بالقوة لن يتردد في بناء اجهزة سرية، أما بالنسبة لتيار اسلامي عريض لطالما طالب بالنشاط القانوني العلني وقدّم طلبا لنيل تأشيرة حزب سياسي في ظل الديكتاتورية لسنوات طويلة، فما حاجته يا ترى الى جهاز سري وهو يحكم البلاد طيلة عقد من الزمان كما يزعمون، أليس في الجمع بين القول بحكم الاسلاميين ثم القول بوجود جهاز سرّي تناقض جوهري؟
لقد خضنا الانتخابات ضد الاسلاميين في مناسبات عديدة طيلة السنوات العشر الماضية، وانهزمنا ثم انتصرنا وانهزمنا وهكذا أمامهم…لقد حوّلهم الحكم الى حالة إنسانية عادية قابلة للنقد والهزيمة، وربمّا الهزيمة الانتخابية الماحقة كما حصل لهم في المغرب مثلا، ولا أظن ديمقراطيا حقيقيا يؤمن بقواعد التنافس الانتخابي وبقيم الانتقال الديمقراطي وفي مقدمتها المصالحة الوطنية، قادر على ان يصدّق فرية "الجهاز السري"، الفرية التي لا تليق الا بالأنظمة الاستبدادية وشعوب القطيع وكل عاجز عن هزيمة الاسلاميين الانتخابية من ذوي العفن الايديولوجي والمكايدة السياسية.. أما من هزمهم انتخابيا فلا حاجة له بالعودة الى أساليب الاستبداد البائسة واللعينة.