[عندما غادر الرئيس السابق الدكتور منصف المرزوقي قصر قرطاج إثر هزيمته الانتخابية في شهر ديسمبر 2014، كتب نصًا بديعا أخضع فيه تجربته الشخصية التي حملته إلى سدّة الرئاسة لمبضع التشريح والتأمل، مُبحرا في استكشاف دروب النفس البشرية وهي تواجه مِحن الحياة في تموّجها. قرأتُ لسياسيين كُثر في بلادي كتبوا عن أنفسهم وعرضوا لتجاربهم، ولكني أُجزمُ أني لم أقرأ نصا نقديا عميقا يُخضع الذات إلى أشدّ آليات المساءلة، في جُرأة وتجرّد، مثلما قرأت نص ‘‘لعنة القزم ألبيريتش’’ الذي كتبه المرزوقي أشهر قليلة فقط بعد مغادرته للرئاسة. ولكن النص، مع الأسف الشديد، لم يُحضَ بما يستحق من الإشادة والتوقف عنده.
ما الغرابة في ذلك وقد أجابك النص عن حيرتكَ قبل أن تقرأه ؟ سألتُ نفسي.
أعود إلى النص اليوم مترجمًا، قبل أن أتوقف عنده مفككا ومحللا.]
المترجم
ولكن لنعُدْ إلى الإشكالية العامّة. ففي سيغفريد (الأوبرا الثانية في الثلاثية) استقبلت البطلة سيغلاند على باب كوخها سيغموند، وقد شارف على الموت بعد فراره من قبضة الأعداء. كان المسكين مُلاحَقًا طول حياته بالحظ العاثر، وفجأة يجد نفسه في موقف يتأبّى فيه قبول دعوة فاتنة مجهولة: "لا أريد الدخول لأنني أحمل معي الشُؤم حيث حللتُ" قال لها. أجابته سيغلاند على الفور: "تفضّل، لا تخشى شيئا، فالنحس قد آوى إلى الداخل قبل مجيئك بزمن ليس بالقصير".
لا مكان تهرب إليه إذا من العذاب. هو دائما في الموعد سواء سكنتَ قصرًا أو كوخًا حقيرا. وسواءً كان ذلك بسبب المرض أو الفقر أو الاضطهاد أو المضايقة في مقر العمل أو الاختلاف مع الأقربين، فهو نصيب كل واحد منا، رجلا كان أم امرأة، طفلا أو كهلا، غنيا أو فقيرا، أميرا أو غفيرًا.
وإذا تأمّلنا ذلك عن قُربٍ، فإن العيش ممزَّقًا بين الرغبة والخوف هو، كما يقول الفلاسفة، صِنو طبيعة الحالة البشرية، أو لعلها وضعية كل كائن حي.
كان نتشه يقول إن العَيْش هو أن تعيش في خطر، ويذهب فرويد إلى أن العيش هو أن تعيش مُقَزَّمًا. ولكن ما الخطرُ والإحباطُ غير سببين آخرين يُحيلان إلى نفس الحالة النهائية ؟ وصف ألبير كامو الإنسان بأنه ثائر. وأشرك بروست اسمه مع الحنين إلى الماضي، وكيركغارد مع السوداوية، ولكن لا أحد من الكُتّاب الكبار – بحسب علمي - جعل من العذاب مجال تدبّر رئيسي.
كان يمكن لديستوفسكي أن يكون مفكّر العذاب العظيم ذاك. فشخصياته الخالدة، من ستافروغين إلى الأمير مُويشكين، مرورا براسكولنيكوف وخاصة كارامازوف، هي أفضل ما يمكن أن نصل إليه في المجال. ولسبب وجيه هو أن مُبدعها كان مطارَدًا بداء الصرع، وبشَبَق القمار، وبالبوليس السياسي، وبمشاكل المال التي لا تنتهي، وكانت حياته كلها فرصة لاستكشاف جميع زوايا وتجاويف ذاك القليل الذي حكمتْ به علينا طبيعتنا وطبيعة العالم.
***
السؤال الكبير هو إذًا منذ البداية: ما العمل في مواجهة الأسباب المتعددة للعذابات المــُحدقة بنا، والتي تطاردنا وتُفسد حياتنا ؟
ها نحن نخترع كل هذه الآلات الضخمة المتمثّلة في السياسة والاقتصاد والدين والطب والفن.
وإذا نظرنا حالة العالم والبشر، وفي الوقت الذي تعمل فيه تلك الآلات منذ ما لا يقل عن عشرة آلاف سنة، يمكننا القول إن النتائج متواضعة جدا أمام ما بذلناه من آمال وجهود.
كلا، لا يجب تهوين الدور الذي تقوم به تلك الآلات. فقد خبرتُ، في الغالب، عجز السياسة، وقدرتها الكبيرة على تعذيب شعوب بأكملها، ولكن قدرتها أيضا على كثير من الآلام غير المفيدة بجرّة قلم. كان أول عمل قمت به عند دخولي قصر قرطاج رئيسا استبدال عقوبة الإعدام الصادرة في حق 200 شخص، وغالبا ما كان الحكم قد صدر منذ عدة سنوات دون أن يُنفَّذَ أو يخرج صاحبه من رواق الموت. نجد صعوبة في تصور عذابات أولئك الأشخاص الذين يعيشون تجربة مماثلة.
ولكن الطب والسياسة والاقتصاد أو الدين لا تربح إلا معارك سريعة الزوال، دون الحديث عن قدرتها على توليد عذاباتها الخاصة في مستويات واسعة جدا.
وفي الحقيقة فإن تلك الآلات تواجه مهمّة سيزيف الذي يجب عليه في نفس الوقت أن يملأ "برميل داناييد".
****
ما الذي بقي لنا غير ذلك ؟ "أشياء" متفرقة ومتنوعة على المستوى الشخصي. هناك الدُعابة (والأفضل أن تكون يهودية، أو إنجليزية أو مصرية) ولكن المشكل يكمن في أننا نعود بسرعة، بعد مرور نوبة الضحك المطهرة، إلى حالة الوضع السابق. نحن هنا بإزاء التقنية التي تحدث عنها أعظم شعرائنا، المتنبي:
لا تلق دهرك إلا غير مكترث ما دام يصحب فيه روحك والبدن
هنا أيضا نواجه مشكلة. فالإهمال المتعالي في مواجهة عذابات "الدهر" (المصير المحتوم في الرؤية العربية للعالم) تعود أكثر إلى المشهد المسرحي المتكرر عند شاعرنا منه إلى حل حقيقي.
وأكثر تعقيدا تلك المقاربة الصوفية التي تقترح في مشروعها تجريد الروح من كل رغباتها، أي من أهم أسباب عذابها، وإخضاعها عبر التخلي فلا تجد ضربات "الدهر" المبرحة ما تقع عليه غير الفراغ.
يجب القول، مع كل الاحترام الذي أُكنّه للمتصوفة بأنواعهم، مسلمين كانوا أم مسيحيين أم يهودا أم هنودا أم بوذيين أم غير ذلك، إن ذلك الهروب إلى الأعلى بحثا عن ملجأ في الإلهي للتخلص من البشري محكوم بالفشل مهما فعلنا. الجلادون الذي نهرب منهم يواصلون عراكهم في داخلنا ومعنا، منكمشين علينا في أصغر خلايا الأديرة الأكثر انعزالا. ولعل ذلك هو الذي انتبه إليه شاعرنا الكبير الآخر إيليا أبو ماضي عندما قال:
سئمت نفسي الحياة مع الناس وملّت حتى من الأحباب
قالت أخرج من المدينة للقفر ففيه النجاة من أوصابي
خلت أني في القفر أصبحت وحدي فإذا الناس كلّهم في ثيابي
إضافة إلى أن الهروب الصوفي يبدو أخلاقيا أكثر منه شيئا آخر، كمن يجلس على الشاطئ لا يبتلّ، وقد ارتسمت ابتسامة الغبطة على محياه، متأملا سفينة شراعية ملأى بالمجانين وهي تغرق، وحمولتها من المنكوبين يتخبّطون. وأمام هذا الهروب الجبان، كما كل أنواع الفرار، أفضّل – فيما يخصّني – الضرورة الحتمية التي تحدث عنها كونفشيوس: "مهما حصل، لا تُشحْ بوجهك عن هذا العالم الغارق في الفوضى، وواصلْ التقدم مع الناس وسط ضجيج الحياة وهرْجِها ومرْجها".
لا تنْزوي عن الناس، كل الناس، يعني مشاركتهم عذاباتهم ومقاومتها معهم، بكل الوسائل السياسية والاقتصادية والدينية والثقافية، بأمل ولكن بدون أوهام.
فمن هو هذا العدد المحدود من بني البشر الذين نتفاعل معهم باستمرار، والذين يدخلون بهذا المعنى فيما يمكن أن نسميه بدائرة المسؤولية المباشرة ؟
أَلقُوا نظرة الشفقة على هذا اللفيف من المـــُعذِّبين المـــُعَذَّبين …. وتذكّروا تلك القشّة التي أضيفت إلى حمل البعير فقصمتْ ظهره … لا تُضيفوا شيئا إلى الحِمْل، يمكن أن يتحول ذلك إلى تلك القَشّة.
يمكن لكل ذلك أن يمرّ عبر نظرة متوارية، غضب مكبوت، رغبة في الانتقام مُتَحَكَّم فيها، عفو أهل المقدرة.
وفي مواجهة ساخر لا بد منه يقول لك: "ولكن وجودك هو نفسه السبب في تلك العذابات"، احتفظ بذلك القول كما هو. فالأسوأ أن تكون صرخة الألم التي تطلقها روح نخرها الحقد، وفي الأفضل أن تكون إرادة في توجيه كلمات لطيفة تجاهك. في الحالة الأولى، صلِّ من أجل خلاص المسكين، وفي الثانية ابتسمْ واشكر الوقح على تلك النكتة، سيُفرحُه ذلك.
ولمعرفة كيف نتجنّب سحق المقهورين، لا بد من تعلّم إدارة وضعيته كإنسان معذّب.
وبالإضافة إلى السخرية والانخراط في كل المعارك التي نخوضها لتغيير العالم، حتى عندما تبدو دنكشوتية، لا يجب أن نغفل عن أدوات التحليل التي بحوزتنا.
وبالنهاية فإن رؤيتنا للأشياء هو ما يُضفي عليها معنى لا تملكه في ذاتها وبمعزل عنا. يعبر الشباب عن ذلك بضرورة تغيير برمجياتنا المتعاملة مع صعوباتنا التي لا تنتهي. ولتحقيق ذلك لا بد من تبني الحكمة القديمة لـــــ "لاو تسو" Lao-Tseu القائلة: ‘‘كيف لنا أن نقدّر قيمة الفرح إذا لم نعرف الحُزن ؟ وما الجمال إذا لم يوجد القُبْح ؟’’
ويجب أن ندرك خاصة، أن الشقاء يزيد مشاعرنا توهّجا، ويُبقينا في حالة يقظة مستمرة، وأنه يجعلنا بذلك أكثر حضورا في العالم وفي أنفسنا.
أن نقول لأنفسنا أننا في واقع مرّ ومعقّد ومتغير، حيث لا شيء مجاني، يصبح الشقاء هو الثمن الذي ندفعه في سبيل كل أنواع البهجة وكل الانجازات وكل المـــــُــتَع التي تزخر بها الحياة إذا عرفنا كيف نأخذها من جانبها الجيّد … نوع من ضريبة السَّكَن في العالم. ضريبة من أجل ذلك الامتياز، تبك الفرصة، شارة الشرف تلك: أنْ تُوجَدْ.