عدد ممن أثق في رجاحة عقله، وتجرّد روحه، وتعاليه عن سفاسف الأمور من بين أصدقائي المتعلقين ببركات الثورة، عبّروا في الأيام الماضية عن نبرة عالية من تخوّفات "مشروعة" من "سرقة" الحلم الكبير في التغيير في تونس.
السياق: ما تعرفه البلاد من "تفاعلات" تالية عن الحراك السياسي والاجتماعي الذي توّجته الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرة.
وموضوع التخوّف ما رأوه من صعود "صاروخي" لخطاب الثورة وسقف مطالب التغيير العالية، الذي ترجمَتْهُ صناديق الاقتراع، وتكثّفت رمزيته في تصعيد الجامعي قيس سعيد إلى سدّة الحكم.
وعلّة الخوف من "انقلاب" محتمل على ذلك الحلم، بحكم ما لمسوه من استرجاع "طبقة" النخب التقليدية (تصوّرا وفعلا وتمَوْقُعًا) لزمام المبادرة في محاولة لـــ"تجيير" ذلك الحلم لمصالحها الضيقة وترتيباتها الكلاسيكية.
قد أفهم الكثير الكثير من عبارات ذلك التخوف، وأتوقف عند منعرجات ردة فعل هذا الطرف أو ذاك، ولكن لا بد من التذكير (مرّة ومرّة) ببعض الحقائق والتعيّنات التي تتدخل – بشكل من الأشكال – في تحديد رؤيتنا وفعلنا، حتى لا نتوهّم من جديد، وحتى نكون شهداء على الناس، بمعنى المحافظين على بوصلة الهداية.
1) العَجَلَة عدوّة التغيير
لم يمض على نجاح قيس سعيد في الوصول إلى قصر قرطاج سوى بضعة أيام؛ وجاء انفجار الفرح بنتائج الانتخابات لدى أنصاره (فيما يُعتَقَدُ أنه استعادة لموجة ثورية جديدة قد تسمح بتحقيق شعارات الجماهير المنتفضة والمطالبة بالحرية والكرامة ذات 17 – 14) صاخبا مدويّا لدرجة أنه أربك الترتيبات الداخلية والخارجية.
الدرس الأول الذي "فشل" فيه الأصدقاء المناصرين للتغيير والمقتنعين بحتميته ومساراته "الانجرار" لتحريف ما وقع عن حقيقته وعمقه المستقبلي.
ففي أيام قليلة تحول التركيز من هزيمة "مدوية" (وليست نهائية) للتشكل التقليدي للسياسي – الاجتماعي كتعبيرة عن التشكل الثقافي – القيمي في مسار تفككه الطويل، الى التركيز على مظاهر فرح "مؤقت" زائل بحدث / لحظة، وما تفرزه المظاهر من تعبيرات متنوعة ومختلفة وقصووية أحيانا.
نحن في عَجَلَةٍ من أمرنا. لا زلنا عاجزين عن ترك (أو المساعدة على ترك) الخميرة لتنضج كما يتطلبه منها الوقت، وليس ذلك بسبب الانجرار الى ما برعت "القديمة" فيه من تحريف المعارك واستعادة الأوهام؛
العَجَلَة عدوّة التغيير بإطلاق، وهي صرفٌ للنظر إلى بطائن الحال المطلوب تغييره، والمسك بظواهره التي يُفلحُ أعداء التغيير في كل مرة في ضمها إلى صفّها بالنهاية.
والمؤسسات التقليدية، إجتماعية كانت أم سياسية أم اقتصادية أم ثقافية – قيمية، هي المستفيدة الوحيدة من تلك العجلة في كل مرة.
2) في المقارنات دون بوصلة
علّة الفشل الأول الذي تحدثنا عنه أعلاه نجدها في الالتجاء سريعا إلى القيام (أو تبنّي) بمقارنات ظرفية نتوهم أن استحقاقات عاجلة تتطلبها.
تعالوا نفكك ما حصل في الانتخابات الأخيرة ونعرضه على قيم التغيير المستقبلي أو المرجو.
إذا اتفقنا على توصيف قيس سعيد الظاهرة بـــ"الرئيس القَدَري" (بعبارة الصديق الهذيلي منصر) أو بما أطلقتُ عليه تجاوزًا (في نص سابق) "المعول الرباني"، فوجب سحب تلك الأدوات على بقية التحليل.
انطلاق شعار "الشعب يريد" في 2011 كان زلزالا رسم بوصلة تغيير كوني لم تكتمل معالم تشكله بعدُ. كان الشعار يحتاج عقدا من الزمن (على الأقل) لتتفاعل ارتداداته وتساهم في حركة كشف واسعة وعميقة لمكونات "القديمة" المطلوب تغييرها. منذ البداية ذهبنا إلى أن ذلك التغيير الذي نلمس حقيقة خيوطه في الواقع مختلف عما سبقه في تاريخنا المعاصر في النوع وليس في الدرجة.
الثورة التي انطلقت شرارتها من تونس – لحكمة يعلمها ربك – كانت إعلانا عن مشاركة في مقترح كوني لمنظومة قيم إنسانية تهفو لها أفئدة الشعوب في مسيرة خلاصها الفردي والجماعي. وسّعوا دائرة النظر في أثر شعارات تلك الثورة على المحيط وعلى العالم وستدركون حجم التقدم الذي قطعته في بلادنا. تدبروا انفجارات "حركة بوديموس" في اسبانيا، و"السترات الصفراء" في فرنسا، والحركات الناشئة حول صراع البريكست في بريطانيا، واحتجاجات الرفض في ساحات كيتو بالأكوادور أو هونغ كونغ، ناهيك عما عرفته العراق والجزائر ولبنان وغيرها من المناطق القريبة، نفس الروح ونفس معالم الفاعلين ونفس المطالب تقريبا، نفس منظومة الشعارات ونفس طرائق التنظم ....
أنصتوا إلى هذا "الزحف الهادئ"، وأنواع المقاومة "القادمة من أسفل"، أو ما يطلق عليها عالم الاجتماع "آصف بايات" بالثورات ما بعد الحداثية، والتي تترجم عن نفسها في البداية في شكل "اللاحركات" وهي صور من النضال ينخرط فيها ملايين الفقراء والنساء والشباب في حياتهم اليومية، قبل أن تنفجر في وجه الاستبلشمنت establishment بكل مكوناته (يروحو قاع) (طلعة الريحة) ...الخ.
إن توجّسات وتخوفات ممثلي النظام القائم في تونس (مؤسسات رسمية؛ تشكيلات حزبية ومدنية؛ نخب حضرية منخرطة في شبكات منفعة؛ "وسطاء" جامعيون أو مثقفون أو إعلاميون ... الخ) من مآلات "تحدي السلطة" من خارج "نماذج القوة" (paradigm power) المهيمنة، هو فحسب "رعب" من انهيار منظومة (وليس "الــــــ"ــــــــمنظومة) هم قلب رحاها.
وذاك الرعب هو ما يفسر ردة الفعل العنيفة جدا على مظاهر الفرح بانتصار قيس سعيد بنتيجة فارقة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي اجتاحت الشوارع والساحات في مدن عدة. وعلماء الاجتماع الذين درسوا الثورات التي نعيش أكدوا على أن المبالغة (والتطرف) في إظهار الفرح في طقوس جماعية هي واحدة من أهم "المعاول" التي يساهم "المهمشون" في تفكيك "القديمة" بها.
وبالعوْد إلى تخوف بعض الأصدقاء المناصرين للتغيير والراغبين فيه، أشير إلى أن "نصوص الخوف" هي من تحرير أولئك الذين لم (وربما لن) يفهموا مدى تقدم قوى التغيير في اكتساح الفضاءات التي كانت محرمة عليهم، فضاءات المعنى، والرمز، ومن ثَمَّ التشكل الاجتماعي.
انفضّت القصبة 1 والقصبة 2، وأُجهضت القصبة 3، بقوة القمع (البوليس) وقوة تحريف الرمزيات (النخبة السياسية والثقافية والجامعية)، وانفرط عقد الشباب رمز المقاومة القادمة من تحت؛ ثم عادوا بعد أقل من عقد من الزمن قوة انتخابية زاحفة، وتكتلا "لا مرئيا"، غير متجانس، يظهر "عنفا" متزايدا في الإجهاز على ما تبقى من منظومة متهاوية ومفككة، ولكن من داخل الدولة وليس من خارجها.
هنا نقطة قوة التغيير في تونس، والتي يمكن الاستثمار المستقبلي فيها: طرح أكثر الأسئلة المحرّمة حول التشكيل الاجتماعي والسياسي والقيمي الذي صنع ذواتنا منذ ما يقارب الثلاثة قرون على الطاولة، والاقتناع بأن الجميع شركاء بنفس الدرجة في اجتراح الأجوبة والحلول إزاء تلك الأسئلة.
انتهى "زمن الذلقراطية" و"الإهانة في عهد الميغا إمبريالية" ولا عزاء لروح البقاء البشري إلا في ظل الكرامة: "قيمة القيم" (عناوين كتب للمرحوم مهدي المنجرة).
...... ﴿ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى﴾