ما فتئ الصديق شاكر بوعجيلة يحفر في الذاكرة التونسية ويحاول إعادة رسم "خارطة التونسيين" لدفعهم إلى التدبر في مستقبلهم يقوم على وعي معرفي، وانفتاح مسؤول على الذات. فبعد شريطه عن "أسد عرباطة ... لزهر الشرايطي"، في السنوات الأخيرة، ها هو يقدم لنا باكورة أعماله من خلال شريط وثائقي جديد (إنتاجا وإخراجا) عن ثورة علي بن غذاهم عام 1864، التي كادت أن تطيح بحكم البايات في تونس. عرضت قناة الجزيرة الوثائقية هذا الشريط في جزءين، يدوم كل جزء حوالي 50 دقيقة.
نجح المنتج (وهو نفسه كاتب السيناريو) في توظيف مختلف الأدوات التصويرية المتاحة، ووُفِقَ في الانتقال والمراوحة بين السرد التاريخي "الرسمي" (اعتمادا على رواية ابن أبي الضياف شاهدا وفاعلا ومؤرخا)، والمشاهد التمثيلية، وتحليل الوقائع التاريخية (إعطاء الكلمة لأكثر من 12 أستاذا ومختصا)، وعرض الصور الفتوغرافية والوثائق. كما جالت الكاميرا بين المناظر الخارجية والداخلية والخرائط التفاعلية ما أضفى على الشريط جمالية وفوائد تشد المُشاهد باختلاف مستواه واطّلاعه.
واحتفاء بهذا العمل، أتوقف هنا عند بعض الملاحظات، التي يمكن أن تُؤخَذَ على الإضافة وليس على الاعتراض.
• لا حظنا بشكل جلي أن المنتج انطلق – بشكل حصري – مما تركه لنا أحمد بن أبي الضياف رئيس كتَبَة البايات ومؤرخ تلك الفترة، من رواية "شبه رسمية" (كتاب الإتحاف) تحتاج إلى كثير من التدقيق والمقابلة مع غيرها من الروايات، خاصة وقد تحوّلت بحكم أيديولوجية الحُكم المركزي منذ ذلك الزمن وإلى الآن السردية الأكثر انتشارا وتأثيرا في وعي الأجيال المتعاقبة.
• ورود عددٍ من الجمل السياسية – الثقافية على لسان بعض الأساتذة في الشريط رَفَعَها إلى مستوى المُصادرات المعرفية، وهي في الواقع ليست كذلك، بل لعلها تحتاج (وهي تتعرض بالفعل) إلى تفكيك ومناقشة؛ ومنها على سبيل المثال أن أحمد باي قام بإصلاحات هامة وثورية (الهادي جلاب)، أو أن عهد محمد باي قد عرف طفرة من التطور القضائي الذي أبهر العالم (فتحي القاسمي)، أو أن عهد الأمان والدستور هي أهم إصلاح عرفته البلاد والمنطقة … ولكن لم يقابله إصلاح إجتماعي اقتصادي (زهير إسماعيل) … الخ. طبعا هذه الجُمل – الشعارات السياسية ليست خاطئة، ولكنها تتحول – كما وردت – مفاتيح في الشريط يُخشى (إذا عُرضتْ دون تنسيب أو تشكيك) أن تؤسس لخلفيته، وبالتالي يقوم الشريط بدور التبني والترويج والتثبيت.
• تعرّض بعض المتدخلين إلى وقائع قد تُفهمُ (مُجتزَأةً كما وردتْ) بشكل خاطئ؛ ومنها على سبيل المثال لا الحصر القول إن أحمد باي هو من استدعى البعثة العسكرية الفرنسية لتدريب الجيش النظامي التونسي (التليلي العجيلي) في حين أن ذلك العمل بدأ قبل ذلك الباي بعدة سنوات، أو التشديد على أن حيدر أفندي مبعوث السلطان قد منعه الفرنسيون من النزول من باخرته، وأنه أصر على النزول ونصح الثوار بالتفاوض (عبد المجيد الجمل)؛ أو التركيز على الأدوار "المشبوهة" لزعماء الطرق الصوفية في اختراق صفوف الثوار وزرع الفرقة بين صفوفهم.
مرة أخرى يبدو أن هذه العروض تبقى ناقصة، وأحيانا مُضللة؛ إذ لم يتعرض الشريط (أحيانا بشكل مطلق) للأدوار المختلفة التي أداها مصطفى خزندار "وحزبه" (محمود بن عياد – نسيم شمامة – إلياس مصلي …الخ) طيلة حوالي 35 سنة، قبل الثورة وأثناءها وبعهدها، في خراب البلد، وفي أن الثورة قامت بالأساس ضده وفي تناقض مع سياساته؛ وما يتعلق بذلك الدور من "سكوت فاضح" (أو إعانة بالسلب وبالإيجاب) من المصلحين، أو من يطلق عليهم "بحزب خير الدين".
وأحيانا بشكل واضح للأدوار المخابراتية الأوربية إبان الثورة، والفرنسية منها بشكل خاص، والتي تترجمها المراسلات السرية التي كان يبعث بها السفير دو بوفال إلى السيدة كورنو (العقل السري أي خارج المؤسسات للإمبراطور نابليون الثالث) والتي تُثبت التلاعب الكبير في إحداثيات تلك الثورة وتطور مسارها، والتناقض الكبير بين ما كان يريده هو ومدام كورنو، وما كانت تعمل عليه السياسة الرسمية الفرنسية والأوروبية بشكل عام.
عديدة هي التفاصيل التي يمكن العودة إليها لتعديل أو توضيح بعض المواقف والأقوال في الشريط؛ ولكن هذا العمل يبقى رائعا عرضا وإخراجا، وإفادة علمية وثقافية عامة، ما يساعد على بث وعي جماهيري بمحطات تاريخنا المعاصر، وإعادة ترتيب ذاكرتنا.
شكرا سي شاكر بوعجيلة.