الأوهام والهذيان صفتان بارزتان لغالبية النّاس العاطلين قيميّا وأخلاقيّا مرضى النفوس الذين لم يتخلّقوا بالآداب. غشاوة الأوهام الغالبة على عموم النّاس المهيمنة على تصوراتهم وإدراكهم وكذلك كلامهم وتعابيرهم وبيانهم المنعكس المسقط في مجالهم الإجتماعي ومدارهم الحسّي الحركي دون بوصلة ومقصد وإتجاه صحيح سبب إسترخائهم وإنبساطهم وكسلهم الذّهني والسّلوكي. فكيف يفهم تمكّن آفة الأوهام والهذيان في النّفوس؟ وما هو السّبيل لتفادي الإصابة بهما؟
*الأوهام :
تمثّلات وتخيّلات فاسدة عند الإنسان لذاته وواقعه ناتجة عن إدراك خاطئ وتقييم غير صائب للأشياء والمعقولات وعدم إستيعاب للأحداث والوقائع وقلّة النشاط والتّجربة والخبرة وقلة إيمان وثقة بالنفس. فكلما إبتعد الإنسان عن واقع الفعل حيث جهده وكدحه وإجتهاده زادت أوهامه.
إنّ تغيّر المزاج بإستمرار وتلوّنه وغلبة النّفس والأهواء وعدم إستقبال إشارات ومنبّهات الواقع بموضوعيّة ودراية وخبرة وكذلك عدم تزكية النّفس وتربيتها وصقلها بإستمرار لتقف عند حدّها وتنضبط وتلتزم بالصدق والأمانة بيئة خصبة لبذور الأوهام فلا يستجيب الإنسان فعليّا وعمليّا لتحديات واقعه وصعوبات حياته وعراقيلها فتعيقه وتمنعه حالته النفسيّة والذّهنيّة عن إدراك الحقائق والمعاني فيترسّب ويركد بمفاهيمه ومعتقداته ليسبح في أوهامه.
*الهذيان :
كثرة الكلام والتعابير المختلفة المتنوّعة بلبوس نفسيّة ومزاج صاحبها وما يطمح إليه وما يريده ويحلم به وما يعتقد في صحّته يقينا، إذ ترى اللافظ مبثاثا لقوله مفشيا في كل ناد يخطب لا يزن كلامه إذا نطق ولا يلتزم الصمت ولا يتريّث يسارع للكلام والحكم دون تدقيق وإتخاذ مسافة للنقد والتمحيص.
فكم من مجالس يرتادها لافظون يقولون ما لا يفعلون ويخوضون فيما لا يعلمون فهم يتحدّثون بما لا يفقهون وبما يسمعون أريحيتهم وسعادتهم في الحديث والجدال. كم من إنسان مستجلب عيبا لفحصه وآخر لا يترك حلو الكلام وغيره يزخرف ويموّه لغاية في نفسه وآخر لا يلتزم الصمت كحكمة ينساق بحديثه غير عابئ بالمستمعين ودون أن يتحقّق من صدقيّة ما يقول قاعدته " أنا أتحدّث إذن أنا موجود " . إذ العبرة بالحديث لا عبرة بالفعل والإنجاز.
هؤلاء إتخذوا الكلام تعويضا لما يفتقدونه من جاهزيّة للفعل وإمكانية التحقيق والإنجاز وكذلك لإبتعادهم عن حقيقة الأشياء والمعاني وإنحراف مسارهم عن الحقّ وضعف إيمانهم وفراغهم الرّوحي وقلّة وعيهم وعلمهم. فيا شدّة بلواهم وإبتلاء من يجالسهم ويسمعهم ويحادثهم.
*اللّغو والعكر:
إنّ الأوهام والهذيان سالبتان ومانعتان للإنسان من الفهم والإدراك والوعي بالحقائق والسلوك الناضج السويّ الرّاشد فهما نتيجة خلل في التربية ومناهجها وأساليبها ونتيجة لطفولة مهملة دون تربية وتأديب بلطف ورفق ومرافقة ومتابعة ومراهقة هائمة تائهة دون رقيب وتوجيه. إذ أنّ تربية الطفل على الطاعة والإنصياع بقسوة وقمع حريته يفقده الثقة في نفسه ويطمس شخصيته.
كما أنّ المناهج التربويّة التّي تعتمد على التّعليم البنكي وحشو الأدمغة بالمعلومات معتبرة المتلقّي إناءا فارغا أو صندوقا أسودا أظهرت فشلها وإفلاسها لأنها تساهم فعليّا في تكوين وتخرّج جيلا قوّالين لا فاعلين لا عاملين منتجين ومبدعين يفتقدون الروح النقديّة وثقافة الحوار، إنّ التّعليم الحواري والبيداغوجيا البنائيّة الإجتماعيّة وبيداغوجيا المشروع وغيرها من المناهج التربويّة التّي تعتبر التّلميذ محور العمليّة التعلميّة التعليميّة التّي تحفّز وتدفعه لبناء معارفه بنفسه معتمدا على ملكاته ومواهبه تساهم كلها في بناء ثقته بنفسه وإكتسابه مهارات عديدة تصقل شخصيته وتوازن ذاته على المدى القريب والبعيد .
أليس العلم طريقة لتجاوز العقبات الإبستمولوجيّة وإكتساب المعارف بعد طرح الفرضيات وإجراء التجارب للتحقّق من صحّة الفرضيات وتقديم إستنتاجات وليس سكبا لمعلومات جاهزة لا تكلّف التلميذ عناء البحث والإجتهاد حيث يساق إلى الخزن والحفظ دون وعيه؟ قد تتحقق الأهداف المعرفية دون الأهداف المهارية _السلوكية والوجدانية ليفقد التعليم جدواه وفاعليته والتلميذ تكوينه على أسس صلبة متينة. يعتمد الغرب المنتج على ثقافة الحوار والعمل وإحترام حقوق الإنسان والطفل ويعتمد العرب المستهلك على الإقصاء والسيطرة والثرثرة وهنا الفرق والمفارقة بين حضارة تبدع وتتقدم وحضارة تستهلك وتتقهقر.
إنّ إلقاء الطفل منذ صباه في دائرة التّجربة والخطأ مع المرافقة والتّوجيه والعناية مع إحترام ذاته وكينونته البشريّة يكسبه ثقة في نفسه ودربة وخبرة فيتعوّد النشاط الذهني والسلوكي والنقد وإبداء الرأي والمحاورة.
فإذا أغلق الإنسان منافذ وأبواب الهذيان والأوهام وأدمن على الصمت المزيّن للعقل وجعل التجربة والعمل والكدح أدواته وشروطه الأساسيّة الفعليّة للمعرفة والفعل والإنجاز أفلت من مجالس اللافظين وأنصرف إلى ما يمهّه وينفعه وقلّص من دائرة التخيّلات والأوهام الفاسدة.
إنّ نفي الهذيان والأوهام لن يتمّ بدون المنهج العملي وإنشغال وإشتغال النفس بما ينفعها فالذي يغوص في التجربة والحياة العمليّة وسلوك طريق الحقيقة يتفادى متاهات الظنون والنظريات وتشعّب الأفكار وإختلافاتها وتناقضاتها ولا يسقط في جبّ التعصّب والتمذهب وثقافة القطيع وقوم تُبّٓع. فكما أنّ " الشكّ طريق اليقين " فالطريقة سبيل للحقيقة ". فليبحث كل لافظ وسريع الكلام عن سبب هذيانه وعن مسببات أوهامه وليسعى جاهدا لمداواة علله ليستريح ويهنأ ويسعد بحاله ويفارق مآدب ومجالس اللاّفظين ومجالسة اللئام. ولا يغترّ الإنسان الكيّس برواء الرّجال وإن زخرفوا أو موّهوا وبأوهام الكاذبين ولا يسقط في حبالهم وشراكهم فكم من مدّعي كاذب ومن متحدّث لا صدق ولا أمانة له.