لماذا يكتب من يكتب؟ وما هي فائدة الأفكار التي تعرض على صفحات الكتب والمقالات؟ أيكتب من يكتب لقصد نبيل ولثقل الأمانة وأداء الواجب أو لمتعة الكتابة وتسجيل حضور ورغبة في الظهور والبروز أو لتحقيق منفعة شخصية وخداع ومغالطة الرأي العام وتزييف الواقع وتأبيده؟ وما قيمة صياغة الأفكار ونشرها إذا كان الواقع مكبّلا للعقول مانعا للنفوس للتوجّه للفكر إذ الظروف الماديّة ضاغطة قاهرة لا تسمح لبوابة العقل للولوج للمعرفة وفسحة التفكير.
مع أنّ المعرفة سلطة وغيابها مفسدة لمسيرة البشر فإن الإدراك والوعي لا يتم بدون فكر ومرجعية فكرية. إذ كان لا بدّ من فكر فيجب أن يكون له وقعا وركزا وإيجابية في حياة البشر يؤثر في النفوس بالأساس يحرّك ضمائرها ووجدانها يحفّز عقولها للتّفكير والنقد فتكون الأفكار ذات طابع بنائي معالجة لإشكاليات الواقع وصعوباته ساعية لطرح حلول ثورية قابلة للتطبيق من أجل التغيير؛ إذ الغاية إنسانية بحتة. وليس بالفكر الذي يوقظ الغرائز ويغالط النفوس ويخادعها بتقييدها وغشاوتها بمعاني جوفاء ويجذبها إلى إهتمامات لا تعنيها ولا تخدم مصلحتها ولا تحقق إنسانيتها.
إن الغاية السامية للفكر أن يسعى لتغيير المسار وتحويل مسيرة البشر إلى الأفضل حيث السلوك الرشيد الناضج فيتسنّى للأفراد والناس تغيير مهجهم وهواهم ووجهتهم وسيرهم وإنصرافهم وإنشغالهم بما يعنيهم ويفيدهم. وإلاّ أصبح الفكر للإسترخاء وتجميلا للواقع إذ لا تغيير ولا تحوّل للأفضل، بل سكون وثبات على ما هي عليه أحوال البشر من بؤس وتعاسة وشقاوة. الفكر أمانة ومسؤولية وهو إنساني بإمتياز فالتفكير خاصية البشر ولذا يجب أن يلعب دور محوري لإبراز الحقائق ونزع الأوهام وسوء الأفهام وسلطة العادة عن العقول لتفكر بما يناسب مرحلتها وما يفيدها ويسعد حالها.
فكم من أفكار ساهمت في تأسيس وعي وتثوير واقع بائس وكم من فكر أبّد الواقع وزيّفه وجمّله على ما هو عليه من خور وحرمان وفقر وتعاسة فارتهن العباد مسجونين مقيدين بأفكار وعادات وقيم خالوها حقائق وقدرهم المحترم لسذاجتهم وحماقتهم.
لقد حبّرت عقول نيّرة بذكائها وفطنتها ونباهتها على مرّ الزمان كتب قيّمة وأفكار وجيهة مازال الناس يتناولون أفكارهم بالدرس والإهتمام فلقد كانوا صالحين مصلحين مضطلعين بدور طلائعي على رؤوس الملأ من أجل إرساء عقلية متحفزة متبصّرة ناقدة متجاوزة لكل أشكال الإحباط واليأس والخنوع ولقد دافعوا عن حق الإنسان المقدّس في حياة كريمة وناضلوا بأفكارهم ونشاطاتهم من أجل القيم السليمة كالعدل والحرية.
وعلى نقيض ذلك بث دهاة البشر وعباقرة خبثاء وأسسوا فلسفة وآراء ومفاهيم تخدم مصلحتهم وطبقة بذاتها لاغين حقوق عامة البشر زارعين الأوهام مزيفين الواقع بما يعيد عليهم من النفع محيين قيم سقيمة كالجشع والطمع واللؤم والنرجسية وحب الذات والانانية المفرطة ليتقاتل الناس فيما بينهم سياستهم فرّق تسُد وإقتناص كل الفرص في غمرة الظروف المضطربة العكرة عدوّهم الصفاء والوضوح ديدنهم الغشّ والإحتيال والخداع ونشر الغشاوة على البصائر والعقول.
طرفان متناقضين أسلوبا وطريقة وأهداف لا يخلو منهم زمان في حياة البشرية. وكل إنسان في الصراع الدائر الخفيّ والمعلن ينحاز على شاكلته إلى طريق الصلاح وأفكار المصلحين أو طريق الغرور والخداع والغش وأيسر السبل للتّحصيل والإستحواذ والتمكّن والتسلّط. لمن احترف الكتابة وإتخذها وسيلة لتبليغ أفكاره أن يعي لماذا يكتب؟ ما هي خلفيته ومرجعيته؟
وإن تحقق من صواب وأحقيّة ما يفعل ان يتخيّر كلماته فالمعرفة سلطة والكلام لا يطلق جزافا. ولذلك فليعمل العاملون ولا يكلّ عضد المصلحين فالصبر قيمة ثابتة أساسية جوهرية في حياة البشر ولينتبه عامة الناس إلى ما يحاك ضدهم من مناهج خفيّة من سقط متاع البشر وأرذلهم لتغييرهم إلى أدوات ومراقبين سلبيين وجسورا لعبورهم وإستمرارية إنتفاعهم ومصلحتهم من بؤس شقائهم وديمومة سوء أحوالهم.