ضد الاستحمار الديمقراطي
في رسالته امس الى رئيس الحكومة وردت جملة أنتبه إليها الكثيرون إيجابا أو سلبا حسب مواقعهم السياسية وهي جملة : " ما أشدّ مصائبنا، وأثقل وقعها حين يريد الكثيرون إيهامنا بأنّنا لا نزال في طور انتقال يصفونه بالديمقراطي، فهو في ظاهره فقط كذلك وفي باطنه انتقال من الحزب الواحد إلى مجموعة فاسدة واحدة."
يمكن نقد الجملة في اتجاهين : الأول، مروره من الحزب الواحد إلى المجموعة الفاسدة الواحدة يخفي تعميما بفساد جميع الأحزاب الحالية .ورغم أن المقصود العملي هو تحديدا الأحزاب الحاكمة إلا أن التعميم هنا قد يخفي موقفه النظري العام المعادي لكل الاحزاب طالما أنه لا يدعو إلى مقاومة الأحزاب النظيفة للأحزاب الفاسدة.
الثاني،حديثه عن 'مجموعة فاسدة واحدة' لا يستقيم من ناحية وجود مجموعات فاسدة متعددة ومتنافسة ومتصارعة فيما بينها ومرتبطة بلوبيات داخلية ودول اجنبية متعددة .ولكن نقد جملة قيس سعيد هذه كما فعلنا ورغم استناده إلى معطيات من خارج الرسالة يمكن،ربما، اعتباره من الترف الفكري الذي يقفز ثم يُسقط ،على الاقل، على نص قصير -لا يعتني بالتفاصيل - معاني كبيرة يفترض استنتاجها من وثائق أكبر واعمق وهذا عمل يجب أن ينجز فعلا.
لكن الجملة أعلاه فيها جانب إيجابي مهم : اشارتها إلى انحراف مسار الانتقال الديمقراطي بفعل الفساد.وهذه الإشارة يشعر بها ويعبر عنها الكثيرون في تونس، ولكن المهيمنين في الانتقال الديمقراطي يتهمونهم مباشرة بالقذافية وبالمجالسية وبالفوضوية و بالشيوعية و بالشعبوية ،الخ.
ويتناسى المهيمنون في الانتقال الديمقراطي أمرا مهما، يصبح أكثر أهمية في تونس الآن والتجربة الديمقراطية في بدايتها وتشوهات الولادة فيها قد تحكم على التجربة بالفشل الدائم، يتناسون : الانتقادات الديمقراطية للديمقراطية .
ليس المجال هنا طبعا سانحا لعرض هذه الانتقادات .ولكن يكفي مثلا ان نذكر بعض المصطلحات الأساسية التي لو قام اي قارئ بالبحث عن معانيها لامتلك شبكة تقييم أولية لنقد مسار الانتقال الديمقراطي حتى من منطلق ليبرالي لا علاقة له بالتيارات الأخرى المذكورة أعلاه.
إضافة إلى مصطلح "الميديوكراسي" الذي تداوله التونسيون نقلا عن الفيلسوف الكندي الآن دونو ، يمكن الاكتفاء بمراجعة تعريفات معجمية دقيقة لمصطلحات أخرى اعتمدها ليبراليون واشتراكيون ديمقراطيون لنقد الديمقراطية مثل مصطلحات " البلوطوكراسي " و " البوليارشي" و " البارتيكراسي" و" الاوكلوكراسي " ….بل وحتى " الاكراسي" عندما يكون الهدف تدمير المجتمعات والدول وجعلها غير قابلة للتحكم .وفي خصوص الحركات السياسية- الدينية يمكن مثلا مراجعة مصطلح " الهييروكراسي" لتبين الحدود مع الثيوكراسي" التي لا يستسيغها الكثير في تحليل الإسلام السني و لكن يستسهلونها في تحليل الإسلام الشيعي.
لاحظوا أن هذه المصطلحات بعضها يعود إلى الفكر الفلسفي و السياسي اليوناني اصلا ، وبعضها نحته مفكرون حديثون لا يمكن التشكيك في ديمقراطيتهم الليبرالية تماما مثل ماكس فيبر و روبيرت.ا. داهل و سيمور ليبسي وغيرهم.
في الختام إذن، لا يجب ان يمنع نقد قيس سعيد السيء لتجربة الانتقال الديمقراطي - وهو كذلك فعلا ولكن جزئيا وهو نفسه يجب نقده - من ممارسة نقد هذه التجربة ومحاولة إصلاحها وتطويرها ضد المهيمنين فيها الآن من الاحزاب والمافيات، والذين يدّعون الدفاع عن الديمقراطية ويمارسون كل ما يمنعها من ان تكون فعلا سلطة الشعب ( ديموكراسي) .
وان كل من لا يستسلم لتلك الهيمنة هو وحده من لا يصح أن ينطبق عليه توصيفه بكونه من ضحايا الاستحمار الديمقراطي أو بالتونسي : "البهيموقراطية "!