1- انّ اعتماد ما يسمّى الدّوائر الصغرى التي يترشح فيها الأفراد - من المتحزبين أو المستقلين- ليتم انتخاب نائب واحد عنها بمجموع 265 نائب وطني وبما يعني نائبا عن كل معتمدية ، هو النظام الانتخابي المثالي الذي سيعطي الفرصة للأحزاب القوية دون غيرها لتكون مهيمنة على المجلس التشريعي الوطني لعقود والتي لن يتمكن قيس سعيد نفسه من منافستها الا اذا كون تنظيما سياسيا كبيرا حتى لو لم يسمّه حزبا طالما أنّه يعتبر الأحزاب انتهت تاريخيا.
2- ان هذا القانون الانتخابي هو - من بين عوامل أخرى- ما جعل الحياة السياسية في عديد البلدان تنحصر بين حزبين أو ثلاثة منذ عشرات السنين كما هو الحال في أنجلترا والولايات المتحدة وكندا وغيرها. وان هذا النظام الانتخابي الذي يبدو في الظاهر قادرا على احداث حركية سياسية من خلال القدرة على محاسبة النواب قد يؤدّي الى العكس تماما إذا وجد تنسيق بين أحزاب أو تحالفات انتخابية كبرى طالما أن حرية الاحزاب السياسية والتحالفات الانتخابية ستبقى قائمة.
3- ورغم كون هذا النظام الانتخابي يمكن نظريا -أكثر من غيره- من تطبيق مبدأ سحب الثقة بحيث تصبح النيابة وكالة قابلة للسحب بمجرد الاتفاق على مبدأ عريضة سحب الثقة والعدد الضروري من الامضاءات فيها لإنجاز المهمة على مستوى الدائرة الانتخابية الصغيرة (المعتمدية عندنا) ،فانه لا يعني سهولة تطبيق ذلك الا بين الأحزاب القوية التي ستتصارع وقتها لسحب الثقة من نواب بعضها البعض أو تتحالف فيما بينها لمنع ذلك لو تمّ التهديد بسحب الثقة من خارجها على حساب الهيمنة الحزبية في الحياة السياسية.
4- بل انّ هذا النظام الانتخابي قد يصبح خطرا على التجربة الديمقراطية نفسها عدما تكون مرحلة الانتقال الديمقراطي لم تؤدّ بعد الى تحويل الديمقراطية الى نظام ممأسس و مستقر تسنده ثقافة سياسية ديمقراطية ، فيكون وسيلة شرعية لعرقلة الديمقراطية - كما تثبته التجربة اللبنانية - أو حتى للانقلاب عليها وافراغها من محتواها - كما وقع في التجربة الايرانية - بما يعني أنّ الآليات الانتخابية لا تضمن شيئا من تلقاء نفسها بل تتطلب الثقافة السياسية وموازين القوى السياسية.
5- ورغم كون القانون الانتخابي التونسي الحالي لم يحقق المرغوب منه في تحقيق الاصلاحات الاقتصادية و الاجتماعية الضرورية منذ 2011 الا أن السبب في ذلك يعود و بدرجة أكبر الى طبيعة النخب الحزبية و ارتباطاتها الداخلية مع الشرائح الاجتماعية و الخارجية مع القوى الدولية التي لا مصلحة لها في التغيير الحقيقي ولا يعود الى عيوب النظام الانتخابي 'في حدّ ذاته'.
6- وأعتقد أن أفضل حلّ للمسألة في المستوى التشريعي الوطني الآن هو الابقاء على الدوائر الانتخابية الولائية مع اعتماد مبدأ التمثيل النسبي -الذي يتناساه الجميع - وذلك منعا للتغول السياسي وضمانا للتعددية بين أهم التيارات السياسية الكبرى و المتوسطة من ناحية ،وتخفيفا للتشرذم الذي يسببه مبدأ أفضل البقايا من ناحية ثانية. ويمكن لمبدأ التمثيل الديمقراطي النسبي -الذي هو أكثر المبادئ تمثيلية للجميع نظريا - أن يصاحب باجراءات جديدة تماما مثل الحد من الامتيازات المالية (تجربة شمال أوروبا) ومساهمة المواطنين في اقتراح القوانين عبر اللوائح المواطنية (تجربة سويسرا) وغيرها.
7- وبالتوازي مع ذلك، يمكن الاستفادة مما يطرحه قيس سعيّد بتعديل الباب السابع من الدستور الحالي (باب السلطة المحلية) بتطبيق المبادئ المقترحة من قبله على مستوى البلديات و المعتمديات و الولايات مع خلق مجلس مركزي جديد (يسمى مثلا 'مجلس الولايات') يكون غرفة ثانية للمجلس التشريعي الوطني (كأنه مجلس شيوخ يأخذ مكان ومقرّ 'مجلس المستشارين' السابق) تعطى له صلاحيات مراقبة مجلس النواب ويكون له حتى حق النقض في مسائل محددة تتعلق أساسا بميدان العلاقة بين السياسة المركزية والسياسات الجهوية.
اعتقد أن تونس اليوم تحتاج فعلا الى تعديلات مهمة على نظامها الانتخابي -السياسي حتى يكون ناجعا أكثر وطنيا وجهويا على المستويين الاقتصادي والاجتماعي خاصة، ولكن دون هروب الى الأمام أو قفز في الهواء قد يؤدّي الى نتائج عكسية بسبب أزمة مصداقية النخبة السياسية الداخلية والخارجية من ناحية وبسب وجود ميول عدمية لدى عدد كبير من المواطنين وأخرى شعبوية لدى عدد كبير من الشباب خاصّة.
ولهذا أعتقد أنّه يجب البحث عبر حوار وطني هادئ عن حلول وسطى بعض الشيء بين الجميع تحقق اصلاحات فعلية حتما ولكن دون أن تغامر بفتح البلاد على المجهولين اللاديمقراطي والفوضوي الكامنين وبالتالي المحتملين لأسباب داخلية وخارجية في نفس الوقت.
تونس الآن بالذات تحتاج إلى عقول أبنائها لتنظيم عواطفهم. فلنحافظ عليها بالحب والعقل معا.