منذ سنوات عديدة أصبحت الهيرمينوطيقا أو التاويلية موضة عربية إسلامية عند صنف من الجامعيين والمثقفين العرب والمسلمين تصيبني شخصيا بالقرف المعرفي والسياسي على حد السواء . وكنت ارغب دائما في الكتابة عن هذا الأمر الكبير بالتفصيل ولم أفلح . ولكنني اليوم وانا اتصفح بعض الصفحات استبدت بي رغبة في أن أسجل هذه الملاحظة ك' فشة خلق ' فايسبوكية كما يقول اشقاؤنا الشوام.
بعيدا عن نقاش تعريف وأصناف وتاريخ وميادين تطبيق وأهمية التأويلية الذي لا مكان له هنا ،اعتقد انها قد تتحول أحيانا كثيرة إلى منهج للنزعة المحافظة في جميع الميادين ؛ انها قد تصبح ،حرفيا، محاولة نفخ محافظ للروح في جثث نصوص ومنظومات فكرية وثقافية ميتة أو محتضرة أو تستحق القتل و الدفن ، ويا للمفارقة، في نفس الوقت الذي تزعم فيه انها مابعد حداثية تتجاوز المنهج التفسيري الاصولي السلفي القديم و المنهج التفسيري الوضعي الحديث ، وهي في الواقع 'ما بعد حداثية' ولكن محافظة .
هنالك إذن تأويلية وتأويلية ،والتأويلية المحافظة هي بمعنى ما منهجية إيديولوجية تقليدية و رجعية تماما لان هدفها الخفي هو السماح لنصوص قديمة بمواصلة احتلال مكانة مهيمنة في الثقافة الحديثة من خلال محاولة إثبات قدرتها على إعطاء معنى سرمدي للحياة وانقاذها من محكمة تقدم التاريخ العلمي الخاص والفكري العام والاجتماعي السياسي على السواء .
ان التأويلية المحافظة الان هي الوريث ما بعد الحداثي الامين للتفسيرية ما قبل الحداثية التي كانت قد انهزمت أمام التفسيرية والتأويلية الحداثيتين، وهي اختصاص صنف من المثقفين التقليديين الجدد يتكاثر خاصة في البلدان التي ،حسب عبارة لغرامشي، يكون عندها تاريخ ثقافي طويل يجعل قسما كبيرا من مثقفيها يحترف الاشتغال على التراث الماضي وينسحب من إنتاج التاريخ المستقبلي .
ان التأويلية المحافظة، التي تكسر أحيانا كثيرة رقبة كل من النحو والعقل والتاريخ في تأويلها لبعض النصوص باسم ' المنهج التفهمي' ، هي نقد وهمي معرفيا ورجعي تاريخيا للحداثة ؛ انها ما بعد وضعية وما بعد حداثية أشد تأزما من أزمة الوضعية والحداثة اصلا ، وانه لا سبيل إلى نهضة فكرية وثقافية في الوطن العربي إلا بتعرية الرابط المقدس الذي يربط بين هذه التأويلية، وتوأمها الظاهراتي أو الفينومينولوجي المحافظ ، وبين ايديولوجيا معاداة الحداثة،هذه الحداثة المتأزمة هي الأخرى عموما في العالم والمتأزمة بشكل خاص عندنا لأنها استعمارية دخيلة وغير عامة للجميع وغير شاملة لكل الميادين وغير دائمة بين كل الأجيال.
انه لا بد من تأويلية تقدمية جديدة ، تكون ' ديكولونيالية' وانسنية في نفس الوقت ، لتحقيق صيغة جديدة من الهيمنة الثقافية الضرورية لاي نهضة ثقافية و تاريخية حقيقية في السياقات العربية والإسلامية بعيدا عن التوظيف المحافظ لكل اجيال التأويلية الحديثة من شلايرماخر ودلتاي ..مرورا بفيبر و بغادامير ..وصولا حتى ريكور .
وأنني لا أتحسس مقدمات ذلك في تونس تحديدا إلا عند أسماء قليلة 'جديدة' و وازنة معرفيا ولكن متجاهلة خاصة سياسيا ، من أمثال فتحي المسكيني وصالح مصباح و منير السعيداني.. و بعض غيرهم الذين اعتذر منهم عن عدم ذكر أسمائهم بسبب بعدي و جهلي .