(الى لينا بن مهنّي في ذكرى رحيلها)
تونس اليوم لا يمكنها أن تواصل هكذا و الا فستنهار قريبا بسبب التبعيّة و الفساد والعجز والظلم و الوباء ...ولكنها ليست في حاجة اليوم لا الى 'ثورة مضادّة ' دستورية (عبير موسي...) و لا الى 'ثورة محافظة' اسلاموية ( النهضة وائتلاف الكرامة...) ولا الى 'ثورة جديدة' شعبويّة (قيس سعيّد ...) ولا الى 'ثورة قديمة 'تسلّطيّة (القوميّون و اليساريّون التقليديّون...) ولا طبعا الى الحفاظ على التبعية و التخلّف والاستغلال و التهميش والفساد وأحزابه ( قلب تونس ...).
انّها لا يمكن أن تواصل الصّمود بالمهيمن الموجود الذي انتهى و لكنها لا تحتاج لا الى الاستدارة الى الوراء البعيد الاسلاموي أو القريب الدستوري ولا الى القفز في اتجاه المجهول الشعبوي و لا في الهواء القومي/اليساري القديم .
تونس الآن في حاجة الى استكمال ثورتها السياسية بإصلاحات جذرية وطنية واجتماعية وديمقراطية تعي خطورة الوضع الداخلي و صعوبة المحيطين الاقليمي والدولي دون انبطاح ولكن دون مغامرة.
نحن بحاجة الى جمهورية وطنية اجتماعية ديمقراطية يمكن أن يستفاد في الذهاب نحوها من شرفاء يلتقون في منتصف الطريق من مختلف التيارات الايديولوجية ( وان بأوزان مختلفة طبعا) عبر 'مساومة تاريخية' حقيقية تقطع مع المساومات السياسوية و المافياوية الحالية.
تونس في حاجة الى 'كتلة تاريخية' جديدة تقطع أول ما تقطع مع المحاور الاقليمية والدولية دون أن تنعزل عن العالم فتحسن من واقع السيادة الوطنية ،وتقطع مع النزعات التسلطية والاستبدادية ايا كان لونها لتحسن من واقع الحقوق والحريات الفردية والجماعية ما أمكن ، وتقطع مع 'منوال التنمية' القديم لتجترج منوال تنمية حقيقي جديد يسلك طريقا اجتماعية ما أمكن بمساعدة المنظمات الوطنية الكبرى و بمساعدة الشارع الضاغط جماهيريا و الجماهير الضاغطة انتخابيا،الخ.
تريدون 'ثورة دستورية' أو 'ثورة اسلامية' أو 'ثورة قومية' أو 'ثورة يسارية' أو 'ثورة جديدة' جذرية...الآن . ستكون 'فتنة' قد تتحول الى حرب أهلية-اقليمية-دولية ستفرح بها 'الدول الشقيقة والصديقة' وسينخرط فيها الدستوريون و الاسلاميون بالأساس الآن خدمة لمحاور اقليمية ودولية ...وأنا اصلاحي " في الفتنة ألزم بيتي" !
ولكنني أريد اصلاحا وطنيا واجتماعيا و ديمقراطيا جذريا يجدّد ليس فقط 'العقد الاجتماعي' كما يدعو لذلك خيرة 'الحداثيين الوسطيين' - ولكن الذين يذهب كثيرهم باتجاه اليمين كلّما اشتدّت الأزمة- بل و 'العقد الوطني' و'العقد الديمقراطي' أيضا قطعا مع التبعية و الاستبداد.
ستقولون ان 'المساومة التاريخية' تكتيك انتهازي -وسطي وأن 'الكتلة التاريخية' تشبه سفينة نوح تحمل من كل زوجين اثنين.
لا،المساومة التاريخية هي تكتيك انقاذي وطني لا ينجح الا اذا تم اقصاء 'الصّقور' من كل التيارات التقليدية و اذا انتصرت 'الحمائم' داخلها . ثم ان الطبيعة لم تخلق فقط الذكر و الأنثى بل خلقت أيضا الخنثى و الكائنات عديمة الجنس أصلا . منطقكم المانوي الثنائي الاسلاموي و العلمانوي خاطئ. الحياة، بما فيها السياسية، أكثر تعقيدا من كل الثنائيات وتتطلب فكرا مركّبا يسمح ،في ظروف الأزمات الكبرى، حتى باحتمال بزوغ أجنحة تقبل التقدم داخل صفوف ترونها رجعية بالمطلق وببزوغ أجنحة رجعية داخل صفوف ترونها تقدمية بالمطلق ...لأن فقراء الشعب قد يوجدون في كل المعسكرات ولأن شرفاء الوطن قد يتوزعون بين كل الايديولوجيات ويغيرون مواقعم ويعدلون بوصلتهم عندما تنضج الأزمة وتناديهم شعوبهم وأوطانهم بعيدا عن ثنائيات الكتب القديمة.
هل يعني ذلك أن 'الخير ' الوطني و الاجتماعي و الديمقراطي موزع بالتساوي بين الجميع؟
لا، هو 'موجود بالقوة ' في اليسار و الوسط أكثر من اليمين .ولكن بعض زعماء اليسار و الوسط قد يخطؤون الطريق اليه أحيانا.وهو موجود بالقوة ضمن الجماهير المفقرة لليمين وأغلب زعماء اليمين يقمعونه .فينحرف زعيم يساري أو وسطي يمينا ويضلل جماهيره وينحرف زعيم يميني وسطا ويسارا وينير جماهيره وهذا حدث و يحدث في تونس الآن.
و'في انتظار' بروز 'الكتلة التاريخية ' هذه ،ماالعمل؟
من منطلق يساري وطني اجتماعي ديمقراطي ،في المستوى الرسميّ، أنا مع قيس سعيد ضدّ المشيشي والغنوشي. وفي المستوى غير الرسمي البرلماني مع حركة الشعب و التيار الديمقراطي ونواب اليسار ضد الكتلة البرلمانية المساندة للحكومة وفي المستوى الشعبي مع شباب وجماهير الشعب الفقير ضدّ قامعيهم .
ان شعبوية قيس سعيد الوسطية (هو بالنسبة لي ليس شعبويا يمينيا بل شعبويا وسطيا ...الآن) ووسطية ويسارية المعارضة ونضالات الفقراء السياسية والنقابية و المدنية النخبوية و الجماهيرية هي 'الخير' الوقتي الذي يجب نقده و اصلاحه و تطويره كي يضغط لتخفيف الحمل / اصلاح الوضع دون مهادنة في مسائل السيادة الوطنية و الحقوق والحريات الفردية والجماعية و العدالة الاجتماعية والجهوية ولكن دون 'ثورجية' قصووية و/أو استئصالية ،الخ.
وانّ هذا الضغط الديمقراطي يمكنه أن يأتي أكله في صفوف جماهير اليمين الفقيرة وحتى في صفوف بعض قياداته لو عرف الضاغطون من أين تؤكل الكتف فكريا وسياسيا تننظيميا ...بل وحتى أخلاقيّا .
و لا بدّ من التذكير بمقاييس الفرز و التصنيف كي لا تختلط الأمور: السيادة الوطنية (ضد التبعية و المحاور) و الحريات الفردية و الجماعية (ضد التسلط و الاستبداد السياسي و الديني و الثقافي ) و العدالة الاجتماعية ( ضدّ التمييز الاقتصادي و الاجتماعي ) هي ثالوث الفرز.أما ما يعتمده البعض ( ومنهم أصدقاء أحترمهم شخصيا وأختلف معهم ) من خلط الأوراق عبر سوء استعمال مصطلحات الفاشية/الديمقراطية و الشعبوية /الشعبية و الوظيفية /الأصلية و القدامة/الجدّة ،الخ .،فهي 'احتيال' فكري -سياسي هدفه تبرير الاصطفاف الضرائري لا غير بعيدا عن أخطر المسائل وهي 'المسألة الوطنية-الشعبية '.
مؤقتا، للضرورة أحيانا وبسبب الضعف غالبا ، قد أجبر على أن أكون مع الشعبوي الوطني ضد الديمقراطي العميل مثلا. وقد أكون مع 'الوظيفي الوطني' ضدّ 'الوظيفي الدولي' وقد أكون مع 'القديم الوطني' ضد 'الجديد التابع' مثلا.
سيقول البعض،آه : وهل أنت مع 'الفاشية الوطنية' ضد 'الديمقراطية التابعة'؟
اجابتي : في بلداننا التابعة لا تكون الفاشية الا تابعة اصلا لأنها سلاح ضد الديمقراطية التي حتى وان بدأت تابعة قد تفتح للشعب فرصة لتعميقها لتصبح وطنية ولو تدريجيا. طبعا هنا لا يعنيني من يعتبرون أن 'الحرية السياسية' مستحيلة في بلد شبه مستعمر /تابع لأن بعضهم يمارس عكس ما يقول و بعضهم يقول عكس ما قال منظروهم الكبار أصلا ( أقصد بعض اليسار الذي لم يقرأ ردود لينين على ب.كييفسكي سنة 1916 حول نفس المسألة ).
أخيرا : تذكيران اصلاحيان !
1-لزعماء الوسط و اليسار :
لا تدخلوا في لعبة الاستقطاب الكلّي بين الدستوريين و الاسلاميين (وحلفائهم) بمعنى التكتيك المرحلي مع هذا أو مع ذلك في مرحلة كاملة . ولكن لا ترفضوا كل شيء يأتي من أحدهما أو من كليهما. ليس كل ما يقوله ويفعله الدستوريون و الاسلاميون مرفوضا دائما و عليكم التصرف مع أقوالهم وأفعالهم حالة بحالة كي يقع اقناع جماهيرهم الفقيرة على قاعدة ممارسة قيادتهم بضرورة الانسلاخ عنهم ما أمكن. من يرفض كل موقف دستوري أو اسلاموي سيوقع نفسه حتما في لعبة الاستقطاب المؤدية اما الى تقاتلهما أو الى تحالفهما ويجد نفسه فعلا في 'موقع وظيفي' عند أحدهما. عالجوا المسائل نقطة نقطة حسب برامجكم أنتم و حسب مصلحة شعبكم لا غير. ولا تفعلوا مثلا كما فعل بعض نواب 'الجبهة الشعبية' عندما صوتوا مع نداء تونس بالزيادة في نسبة الضرائب شماتة في النهضة المنسحبة وقتها من قاعة البرلمان ليتعود وتكمل بقية التصويت مع النداء ضد مطالب الجبهة.
وضّحوا لقواعدكم ولجماهير شعبكم قولا وفعلا أنكم تقبلون وترفضون من الدستوريين و الاسلاميين ما يناسب برنامجكم و مصالح شعبكم فقط و لا تصطفون بالقبول أو الرفض مع اي منهما ولستم في موضع الاسناد أو المعارضة المطلقة لأي منهما وهكذا لن تهرب منكم الجماهير اليهم وستأتيكم جماهيرهم بعد التجربة لأن بوصلتكم خدمة قضايا وليس معارضة أو مساندة اي منهم ضد الآخر اذ لكم مشروعكم الخاصّ الوطني الاجتماعي الديمقراطي.
2-لجماهير اليمينين الدستوري و الاسلامي المفقرة ...وبعض قادتهم المتردّدين :
- لا يمكن لأي دستوري شريف أن يتنكر لمسار ثورة شعبه السياسية التي سقط فيها شهداء وجرحى بسبب تسلّط نظام بن علي بعد سقوط غيرهم في المرحلة البورقيبية ويحشر نفسه مع 'الثورة المضادة'. الحكم الدستوري انتهى ولا يجب أن يعود .وان الثورة السياسية لا تهدف الى الغاء مكتسبات الحداثة في الدولة و المجتمع بل الى نقدها و اصلاحها و تطويرها عكس ما يريده المحافظون الذين يستعملون الحرية السياسية للحلم بنظام تخامره أحلام العودة الى الخلافة و ان كانت 'سادسة'. ما عليكم سوى الابتعاد عمن يرهن مشروعكم لممالك الامارات و السعودية ولعسكر مصر ...و الدفاع عن المكتسبات برؤية جديدة تماما تقبل بالتحولات السياسية كي تصبحوا شريكا و/او خصما وطنيا و اجتماعيا و ديمقراطيا و ان كان بخلفية دستورية.
- لا يمكن لأي اسلامي شريف أن يتخيل نفسه الآن بيدقا قطريا وتركيا ومناولا عند أجنحة من الادارات الأمريكية و الغربية و ذراعا ضد السعودية و الامارات ومصر -قبل 'المصالحة'- مرة وضد ايران وسوريا و اليمن ،مرّات...و لا يرفض ذلك و لا يحتجّ.
كما لا يمكن لأي اسلامي شريف أن يتخيل نفسه متحالفا مع الفساد والتهرب الضريبي و التهريب و التفقير والقمع بحجة 'مقاومة الشعبوية' -هل ستصوتون لنبيل القروي المرة المقبلة لو وصل هو وقيس سعيد الى الدور الثاني مثلا؟- و 'مقاومة الطفولية' -هل حركة الشعب و التيار الديمقراطي أبعد عنكم من 'قلب تونس' فعلا؟
هل اتحاد الشغل و الوسط واليسار النقابي و السياسي أبعد عنكم من المهرّبين و المتهرّبين و الفاسدين واحزابهم ؟
ألا يمكن أن تظهر في صفوفكم قيادات وأجنحة وطنية اجتماعية ديمقراطية وان كان بخلفية اسلامية ؟
آخرا: عود على بدء من موقع آخر
في جنوب افريقيا .بعد انتخاب نيلسون مانديلا رئيسا لم يقص لا فريديريك دوكلارك الرئيس السابق ولا بيتر بوطا زعيم البيض الأفريكانير و لا بوتوليزي خصمه الأسود السابق و الحال أن ما عرفته جنوب افريقيا في تاريخها العنصري فظيع كفظاعة الصهيونية.
نحن في تونس لم نعرف ما عرفته الشعوب التي عاشت تجارب الانتقال الديمقراطي من أهوال سابقة له كما حصل في جنوب افريقيا و اسبانيا و البرتغال و اليونان و أمريكا اللاتينية وغيرها لأنّ النزاعات عندنا زمن التسلّط لم تتحول الى نزاعات مسلحة و شعبية بل بقيت نخبوية محصورة جدّا. فما الذي يجعلنا نفشل في الانتقال الديمقراطي الى حدّ الآن؟
لأنّ نخبنا لم ترق الى مرتبة النخب الحقيقية التي تتعالى على 'السياسة السياسوية ' و تمارس 'السياسة التاريخية' ذات الرؤية المعتمدة على ما يشبه الرؤيا تقريبا وذلك -بالنسبة الى نخب الأحزاب الكبرى المهيمنة - بدرجة كبيرة لأنها رهنت نفسها للحسابات الاقليمية والدولية وبدرجة أقل بسبب تقليديتها الايديولوجية وسرعة بحثها عن المغانم السياسية و الادارية والمالية.
فهل تكون الأزمة العشرية التي عمقتها الأزمة الحالية التي قد يؤدي بالبلاد الى حالة انسحاق حقيقية فرصة لتتعلّم الأجنحة الوطنية من هذه النخبة - وأوّلها اليسار و الوسط- درسا في السياسة يليق بتونس فتشرع في التفكير بشكل جدّي و جديد في الاصلاح الجذري عبر 'الكتلة التاريخية ' و 'المساومة التاريخية' من أجل تونس الجمهورية الوطنية الاجتماعية الديمقراطية؟
انّها مقاربة اصلاحية، نعم ، ولكنها ضمانة لحدّ ضروري من الأنسنة التي بدونها قد ننهار تماما ونفلس أو ننزلق الى الحرب الأهلية .ولكن المقاربة قد تصبح 'انتهازية ثورية!' لأنّ 'الكتلة التاريخية' الجديدة ان تكونت وتقوّت مستقبلا فيمكنها أن تعتمد مقاربة ثورية ديمقراطية جديدة تتجاوز بها جيل نخبنا الحالي الذي أهداه الشباب ثورة سياسية و هو الى الآن فاشل حتى في الاصلاح الجذري ناهيك عن فشله في الثورة الاجتماعية .