محاولة في نقاش مأزق فكري وسياسي وتنظيمي بخصوص العلاقة بين النزعتين الوطنية و الديمقراطية
عاد نقاش ثنائية 'الوطني المستبدّ' و 'الديمقراطي العميل' هذه الأيّام الى تونس بسبب تصريحات لبعض الوجوه المعروفة وردود فعل عديدة عليها. وليس هدفي هنا الانخراط في صفّ أي كان من المتحاورين اسنادا أو معارضة، بل الاسهام في نقاش اشكالية كبيرة تشغل الفكر و النضال السياسيين منذ زمن بعيد دون حلّ فتعود الى السطح مع كلّ خلل . وإن هذا الاسهام لا يدّعي تقديم الحلّ الحصري أو الشافي للمسألة، بل المشاركة ،على الأقلّ، في تقديم شبكة قراءة قد تصلح للتفكير ولو بمعارضتها.
1-عندما تطرح المسألة بهذه الطريقة (وطني مستبدّ أفضل من ديمقراطي عميل) فذلك يعكس بدايةً الأمور التالية:
أ-قائل هذا القول يعترف بوجود أزمة حقيقية في البلاد لأنه يعترف أن من يحكم ليس "وطنيا ديمقراطيا "- في نفس الوقت - بل يجزم بوطنيته ولكن يصفه بالمستبدّ ، مما يعني أنه ليس الواقع المثالي (الوطني والديمقراطي) الذي يرغب به، بل هو واقع منقوص ؛ وطني (نعم) ولكن مستبدّ. وهذا يفترض ،موضوعيا، موقفا نقديّا واضحا من استبداده رغم وطنيته التي هي نفسها محل نقد ضمني بما أنها ليست ديمقراطية .
ب- نفس القائل بهذا يعترف،في المقابل، أن بعض من يعارضون 'الوطني المستبدّ ' ( من بعض ممثلي الحكم السابق مثلا) ديمقراطيون، ولكن عملاء. وهذا فيه،رغم الاقرار بالعمالة، نوع من 'التثمين الديمقراطي' . والموقف النقدي هنا له منطق معاكس للموقف الأوّل إذ يسند الوطني رغم استبداده ويعارض العميل رغم ديمقراطيته ، بما يعني تفضيل الوطنية (ولو كانت مستبدّة) على الديمقراطية (ولكن عندما تكون عميلة فحسب وليس في المطلق بدليل أن الحالة المثلى هنا هي أن يكون الحاكم وطنيا وديمقراطيا في نفس الوقت) . وهذه المسألة يجب تفكيكها جيّدا ولا يمكن الاكتفاء في أمرها بالأحكام الثنائية المانوية إلا عند من لا يقدر على 'التفكير المركّب في الواقع المعقّد ' أو لمن له حسابات سياسية سلطوية أو معارضة يعتمدها لتعمية الناس عند نقاش المسألة.
2-بعبارة أخرى، ينقسم الناس هنا الى معسكرين :
معسكر من يعتبر 'المسألة الوطنية' قطب رحى السياسة التي يجب أن ترتبط بها المواقف ، ومعسكر من يعتبر 'المسألة الديمقراطية' قطب رحاها. ولكن المشكل مع المعسكرين أنهما يخفيان هنا نقاشا على غاية من الأهمية : كون الوطنية وطنيات وكون الديمقراطية ديمقراطيات ؛ فالوطنية قد تكون محافظة، أو إصلاحية، أو تقدّمية، أو ثورية ،و الديمقراطية ليست فقط وطنية أو تابعة، بل هي أيضا ،مثلا، سياسية -مدنية و/أو اقتصادية-اجتماعية،شكلية أو فعلية بهذه الدرجة أو تلك،الخ.
أكثر من ذلك، من زاوية النظر التاريخية العالمية (كما يفترض أن ينظر اليسارمثلا ) يمكن اعتبار المسألة الوطنية نفسها بمثابة جزء من المسألة الديمقراطية العامّة إذ أن الاستقلال الوطني - أو حق تقرير المصير -هو نفسه جزء من مسألة الديمقراطية القومية التي يجب أن تسود بين الأمم و الشعوب و الدول بما يعني أن تحقيق الاستقلال الوطني هو تحقيق لمطلب ديمقراطي عالمي اذا نظرنا اليه من زاوية النظر التاريخية العالمية.
ومن هذه الزاوية لا ينظر الى الديمقراطية في جانبها الداخلي السياسي فحسب (الحرية السياسية مثلا) بل كذلك في جانبها العالمي التاريخي: سيادة الشعوب على مصيرها ضمن الديمقراطية القومية العالمية بما يفترض سيادتها على نفسها (في دولتها) وعلى أرضها (وثرواتها) وبالتالي على تاريخها (تقرير مصيرها). وإن هذا التمييز هنا مهمّ جدّا للتفريق بين النزعة الوطنية في البلدان الاستعمارية الكبرى (وهي نزعة رجعية غالبا) والنزعة الوطنية في البلدان المستعمرة و التابعة حيث لا تزال المسائل الوطنية /القومية تكتسي صفات ايجابية بدرجات متفاوتة حسب وضع الدول. وإن من لا يميز بين هاتين النزعتين هو إما جاهل بالفوارق بين البلدان أو ،على الأقل، مخترق بالنزعة الاستعمارية وقد يكون ضدّ دولته وشعبه أصلا ان كان من 'العالم الثالث'.ونعود الى ما يخفيه المعسكران .
3- 'الوطني المستبدّ ' إذن هي عبارة عامة جدّا قد تعتمد للتعمية الفكرية ولتبرير مواقف سياسية إذا لم توضّح ما يلي كما يفترض ذلك التحليل العيني الذي يؤمن به اليساريون خاصّة : هل هذا 'الوطني المستبدّ' هو 'وطني محافظ مستبدّ ' (مثل الخميني حسب رأيي) أم هو 'وطني إصلاحي مستبدّ' (مثل بورقيبة) أم هو 'وطني تقدّمي مستبدّ' (مثل عبد الناصر) أم هو 'وطني ثوري مستبدّ' (مثل كاسترو)؟ (والاستبداد هنا سياسي أولا -غياب الحرية السياسية - ولكنه قد لا يكون سياسيا فحسب).
وتكمن التعمية الفكرية و السياسية هنا في التعميم الذي يحجب مسألتين كبيرتين : درجة تجذّر الوطنية من ناحية (محافظة أم إصلاحية أم تقدّمية أم ثورية؟) و، من ناحية ثانية، علاقتها بمسائل الديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (لتمييز درجات الاستنارة في الاستبداد إذا أردنا استعمال مصطلح 'المستبد المستنير' هنا).
وتؤدّي هذه التعمية الفكرية والسياسية الى عدم التمييز بين الأنظمة السياسية من ناحية و إلى اعتماد مبدأ عام فضفاض (الوطنية) لإسناد أو لمعارضة كل هؤلاء دون تدقيق فكري ودون تمييز سياسي. وإذا كان أنصار الدفاع عن 'الوطني المستبدّ' -بسبب وطنيته- يستعملون هذه التعمية لإسناد الجميع دون تمييز ، فإنّ رافضي الدفاع عن هذا 'الوطني المستبدّ' -بسبب الاستبداد- يستعملونها لمعارضة الجميع.وهذا خطأ هؤلاء وأولئك على السواء.ولكنّ خطأ المعارضين -في بلداننا تحديدا- يعتبر خطيئة مقارنة بخطأ الأنصار ، خاصة إذا عالجنا الأمر من منظور تاريخي عالمي ، وذلك بسبب أساسي : نسيان قضية الوطن في بلدان تابعة وشكلنة الديمقراطية عموما، بل وحصرها ،أحيانا، في 'السياسة السياسوية' تقريبا .
4- إذا ساندت أو عارضت جذريا وبنفس الطريقة كلا من الخميني وبورقيبة وعبدالناصر وكاسترو بحجة قبول أو رفض 'الوطني المستبدّ' -أيا كان شكله - فإنّك ترتكب ثلاثة أخطاء : خطئين نظريين (في التعريف و التصنيف) وخطأ عملي سياسي في الاسناد أو المعارضة بشكل مطلق دون تمييز.و ينضاف الى هذه الأخطاء خطأ رابع دائما : خطأ في 'التحقيب الزمني' -في علاقة بالزمن التاريخي العالمي والوطني - لأن ما كان يمكن أن يسند ،مثلا، في ما مضى يصبح غير قابل للإسناد لاحقا بحكم تقدّم التاريخ العالمي هذا نفسه والمكاسب التي حقّقها للشعوب .ولكن معارضة 'الوطني المستبدّ' نفسها قد تشكل مأزقا بسبب امكان تراجع هذا الزمن التاريخي العالمي أيضا ،وحتى الآن، بسبب ما ارتكست اليه الانسانية زمن العولمة التي تعود ،بشكل جديد، لمحاولة تدمير كل الكيانات الوطنية-القومية سواء كانت أنظمتها السياسية مستبدّة (أيا كان صنفها) أو ديمقراطية ( ولكن غير نيوليبيرالية تحديدا وحصرا(.
إنّ الموقف المساند أو المعارض لنظام 'وطني مستبدّ' لا يمكن أن يكون موقفا أشبه بالإسناد وبالمعارضة العاطفيين له، بل يجب أن يكون موقفا مبنيا على تعريف دقيق (يفترض أصلا اثبات الوطنية أوّلا ) وتصنيف دقيق ( التمييز بين الوطنيات المحافظة والاصلاحية والتقدمية و الثورية وفق مقياس دقيق -هو غير متفق عليه) وتحقيب دقيق للزمن العالمي (وضمنه الزمن الوطني ) كي يكون الموقف ابن عصره التاريخي. ولكن ماذا ،تحديدا، عن الموقف المعارض للأنظمة الوطنية المستبدّة ؟
5-هنالك معارضة ومعارضة للأنظمة الوطنية المستبدّة . وهنالك ،نظريا، خمسة أصناف من المعارضة تختلف كل واحدة منها عن الأخرى حسب مقياسين عامين: الأول هو التمييز بين المعارضة الوطنية و المعارضة العميلة.و الثاني هو التمييز داخل النزعات الوطنية المذكورة أعلاه ؛إنّ معارضة الخميني مثلا قد تكون من موقع 'وطني محافظ ' مثله عموما -ولكن أكثر أو أقل منه قليلا - وقد تكون من موقع 'وطني اصلاحي' ،أو موقع 'وطني تقدّمي '،أو موقع 'وطني ثوري ' ، وكما قلنا، إضافة الى المعارضة من موقع تابع وعميل للخارج ( ويمكن التصنيف هنا أيضا على الأقل حسب المركز الخارجي المشتغل لحسابه).
. ومن المهم جدّا التمييز هنا بين المعارضات الوطنية نفسها لأن ذلك يؤثر على درجة تجذر الوطنية من ناحية وعلى صنف الديمقراطية المطالب بها من ناحية ثانية ، وهي التي يفترض أن تتمايز جذريّا عن صنف الديمقراطية الذي قد ( وأقول جيّدا قد ..لأنهم قد يعارضون بانقلاب عسكري أو غيره) يطالب به العملاء أنفسهم كسلاح يستعمل ضد النظام الوطني، ولكن بهدف جعل البلد تابعا للخارج وليس بهدف تسليم السلطة للشعب في نظام وطني آخر .
6- ولكن صنفا من المعارضة - يمثل طيفا كاملا عادة- يتكون ضدّ 'الوطني المستبدّ'- يستحق تحليلا دقيقا جدّا : 'المعارضة الديمقراطية' التي تترك المسألة الوطنية تماما أو كثيرا وتحنّط الديمقراطية في شكل وحيد . هذا الصنف/الطيف من المعارضة يعتبر 'المسألة الديمقراطية' كلّ شيء ويصل الى القول إنّه "لا يمكن أن يكون المستبدّ وطنيّا " أصلا،وهو موقف يستبطن أحيانا -عن جهل -ويخفي أحيانا أخرى -بخبث- فكرة أن ''كل ديمقراطي هو وطني بالضرورة " التي تبدو فكرة برّاقة، ولكنها قد تخفي الخلط المتعمّد بين الديمقراطيين الوطنيين و الديمقراطيين العملاء تحديدا. وتقوم هذه الفكرة عادة على تقديس صنف من الديمقراطية (التمثيلية الكلاسيكية تحديدا) واعتبار كل صنف آخر استبدادا صارخا.
إن أنصار هذا 'الطيف' يقدّسون شكلا من الديمقراطية ويحولونه الى 'نموذج كوني' يجب على الجميع اتباعه والا فهم استبداديون بالضرورة ، متناسين أن الديمقراطية ديمقراطيات -بصيغة الجمع - بحيث قد تكون وطنية أو تابعة (والديمقراطية التابعة توجد ولكنها تبقى سطحية وشكلية وقد مارستها دول استعمارية مباشرة في مستعمراتها الخاضعة لها اصلا) وقد تكون ملكية(دستورية و/أو برلمانية) أو جمهورية أو غيرها ،وقد تكون رئاسية أو برلمانية أو مختلطة ،وقد تعتمد أشكالا مختلفة من فصل السلطات -بما فيها بين السلطة السياسية والسلطة الدينية - وقوانين مختلفة للأحزاب و الجمعيات والانتخابات و الصحافة وغيرها، وهذا ما يعرفه الجميع في العالم ولكن يتناسونه فجأة عندما يتعلق الأمر بمعارضة النزعة 'الوطنية المستبدّة' في بلدهم بهدف اظهارها معادية لكلّ أشكال الديمقراطية وجعلها بالتالي هدف توحيد 'المعارضة الديمقراطية' حتى بين الديمقراطي الوطني و الديمقراطي العميل نفسهما.
7- ولكن مقابل هذا الصنف/الطيف من 'المعارضة الديمقراطية' يتكون صنف/طيف من 'الموالاة الوطنية' الذي يرتكب نفس الخطأ -ولكن مقلوبا- بحجة أولوية 'المسألة الوطنية' فيكتفي ،من ناحية، بالتركيز على وطنية المستبدّ دون حتى تمييز صنفه (المحافظ أو الاصلاحي أو التقدمي أو الثوري) وبإهمال 'المسألة الديمقراطية' أو 'تأجيلها' الى ما لا نهاية في حين أن القول باستبداده الوطني يعترف بالاستبداد الموجود (بشكل أو بدرجة ما) و يفترض على الأقل 'مساندة نقدية' أو 'معارضة ايجابية' لحدود نزعته الوطنية -الموجودة - ولغياب نزعته الديمقراطية -المفقودة- أو المنقوصة على الأقلّ .
وهكذا قد تبيّض 'الحركة الديمقراطية ' أعلاه التبعية (باسم الديمقراطية) وقد تبيض 'الحركة الوطنية' أعلاه الاستبداد (باسم الوطن) ، في حين أنه كان من 'السهل' -نظريا- تجنب ذلك عبر ممارسة التمييز الفكري و التمايز السياسي و التنظيمي- في نفس الوقت- داخل النزعات الوطنية وداخل النزعات الديمقراطية على السواء. وفي الحالتين، وهذا ما تثبته ممارسة الشعوب، سيقع فلق صفوف من يفترض -في نفس الوقت - أن يكونوا من الوطنيين والديمقراطيين وسيقع استغفال قسم من الشعب هنا وقسم من الشعب هناك، هنا باسم شكل من الديمقراطية (التي تقدّم كقضية مركزية حصرية وتتغافل عن التبعية أو تؤجل الخوض فيها لتبرير التنسيق مع العملاء) وهناك باسم شكل من الوطنية ( التي تقدّم كقضية مركزية أيضا و تتغافل عن الاستبداد أو تؤجل الخوض فيه لتبرّر التنسيق مع المستبدّين أو اسنادهم حتى عندما لا يطلبونه أو لا يقبلون به أصلا) ،وفي الحالتين سيعرف البلد 'قنبلتي تأخير' في مسار تقدّمه التاريخي .
عوضا عن الخاتمة : ما العمل وطنيا وديمقراطيا ؟
يجب ،مبدئيّا ، رفض العمل المشترك مع العملاء (بعد اثبات عمالتهم) في اطار تحالفات سياسية كبرى، بل ويجب سحب البساط من تحت 'أقدامهم الديمقراطية' الشكلية بالدفاع عن أكثر ما يمكن من تجذيرالديمقراطية .. ولكن الوطنية .
ويجب ،عمليّا (ولكن عمليّا فحسب ،وهنا جوهر الموقف السياسي الوطني في البلدان المستعمرة و التابعة ) ، عدم رفض العمل مع الوطنيين المستبدّين (بعد اثبات وطنيتهم ) ولكن بشروط معروفة في السياسة في صورة إمكان وجود تحالفات جبهوية أو غيرها -ناهيك إن لم يكن هنالك تحالف أصلا وهنالك فقط موقف 'اسناد نقدي' مثلا - حيث ينصّ أبسط منطق جبهوي على ضرورة احترام الشروط التالية :
أ- وجود فعلي لأهداف مشتركة قليلة أو كثيرة، قريبة أو متوسطة أو بعيدة المدى يقع توضيحها بدقّة بشرط عدم التنكر لكل ما تحقق من حقوق وحريات سابقة في البلد ولما يعتبر مكاسب حالية شرعية من وجهة نظر إنسانية .
ب-الحق في نقد الحليف -أو المسنود نقديا - علنيّا على كل تقصير أو خطأ أو انحراف يمارسه بهدف الاصلاح والتجذير ما أمكن ولو ،بداية، بالانتقال من 'المساندة النقدية' الى 'المعارضة الايجابية' التي تراوح بين الاحتجاج والاقتراح .
ت- الحق في الاستقلال السياسي والتنظيمي والنضالي عن الحليف -أو المسنود- حتى عندما يكون هنالك تنظيم جبهوي مشترك أصلا ، ناهيك ان كانت مجرد مساندة نقدية.
ث-الحق في فكّ التحالف -أو في ابطال الاسناد- متى ما وقعت الاساءة الى الشروط السابقة و التحوّل الى موقف 'المعارضة السلبية' نفسه متى تم التراجع بوضوح عن أهمّ الأهداف المشتركة بما يضر بشكل واضح بالحقوق والحريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والوطنية للشعب.
وهكذا،نظريّا، يمكن الجمع بين الوطنية (التي يقع العمل على تجذيرها شعبيّا وفتحها على الأفق الانساني باستمرار) والديمقراطية (التي يقع العمل على تجذيرها اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا باستمرار) دون قبول (مبدئي) بأي تحالف سياسي حقيقي مع العملاء أيا كانت ديمقراطيتهم ، و دون قبول (عملي) للعمل المشترك مع الوطنيين المستبدّين الا بشروط تمنع التذيّل لهم ، أيا كانت وطنيتهم . أمّا خلاف ذلك فيعتبر (مبدئيّا) مجرّد صبّ للماء على طواحين التبعية باسم الديمقراطية ،ويعتبر (عمليّا) مجرّد صبّ للماء على طواحين الاستبداد باسم الوطنية .
هذا وإن النظرية هنا تبقى نظرية عامّة تترجم الأهداف التي يتحكّم في مسارها الفاعلون الوطنيون الاجتماعيون الديمقراطيون بأنفسهم بقدر الامكان بينما قد يعطي الواقع احتمالات تقاطع موضوعي -لم يبحث عنه- بسبب تعقّد مسارات النضال السياسي بحيث يجب التمييز بين وقائع ذلك 'التقاطع الموضوعي' و مخططات التحالف ونوايا الاسناد المسطرة ذاتيا حتى لا يتهم كل مناضل ديمقراطي بالعمالة لأن الواقع أدى الى تقاطع ما بينه وبين العملاء في المطالبة بإصلاح جزئي ما في اطار الدفاع عن الديمقراطية ،وحتى لا يتهم كل مناضل وطني بالاستبداد لأن الواقع أدّى الى تقاطع جزئي ما بينه وبين المستبدّين في اطار الدفاع عن الوطن .
ولعلّنا لو بدأنا النقاش من النقطة الأخيرة هذه ثم عدنا الى ما هو نظري لكان التمشي أنفع وأسلم خاصة من الزاوية الايطيقية السياسية التي مع الأسف تغيب كثيرا بسبب احتدام الصراعات وكثرة السجالات وسهولة الاتهامات في تونس اليوم بين التنظيمات والأفراد والتي يذهب ضحيتها مثقفون ومناضلون شرفاء كثر في الطيفين كل ذنبهم أنهم يتحمسون لما يدافعون عنه دون رؤية واضحة ورثنا جميعا غموضها النظري العام وانزلاقيتها العمليّة عن الأجيال السابقة .