بمعنى ما يمكن القول انّ الاسلام في عمومه لا يمثله أحد بما في ذلك الرسول محمّد نفسه ناهيك أن يكون يمثله قاتل كنيسة نيس أو أن يمثله تنظيم ارهابيّ ما. رسول الاسلام نفسه لا يمثل الا الاسلام الذي نطق به ومارسه هو بنفسه في حياته. وما قاله وفعله عرف مراحل مختلفة وأبعادا متنوعة ضمن سياقات اجتماعية وتاريخية ومعرفية محددة يعترف ببعضها أشد المؤمنين تعصّبا من باب ذكر 'أسباب التنزيل' ودراسة 'الناسخ والمنسوخ ' مثلا.
نبيّ الاسلام نفسه ليس مسؤولا - بالصفة الاطلاقية السائدة عند بعض الحداثيين تحديدا ومفارقة! - حتى عمّا فهمه ومارسه خلفاؤه المباشرون ؛ أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ، ناهيك عن غيرهم من المسلمين الذين لهم 14 قرنا من التاريخ و هم الآن قرابة المليار ونصف المليار من البشر... تماما كما أن موسى و عيسى ليسا مسؤولين عمّا فعله ويفعله اليهود و المسيحيون من بعدهما ...سواء كان مايفعلونه ايجابيا أو سلبيّا على فكرة.
اسلام كل مسلم وكل مجموعة من المسلمين - في زمان ومكان ما - هو صنيعهم الذي ينتج عن تفاعلهم مع النص والممارسة التأسيسيين من ناحية ومع الواقع الاجتماعي والتاريخي والمعرفي الذي يعيشون ويفكرون فيه.
أيها الحداثيّون التونسيون ،
ألستم أنتم من يقول أن 'الاسلام اسلامات' وأنّ 'النص يكف عن كونه ملك صاحبه بمجرد نشره' -و القرآن نصّ وكذلك الحديث- فيصبح نصوصا وأنّ المسألة بعد ذلك ترتبط بالتأويلات وأن التأويلات مسالة سياقات وخلفيات واحداثيات واستراتيجيات،الخ؟
ألستم أنتم من يشكك في تمثيل الاسلاميين للإسلام ويعتقد بعضكم مثلا ان التصوّف أو الاسلام المعتزلي أو الرشدي، الخ.، هو أقرب الى تمثيله من الاسلام السياسي الذي تعتبرونه سليل الحنبلية ثم الوهابية التين لم تكونا سوى قراءتين من القراءات السنية (لا غير) للاسلام؟
ألستم أنتم من ينصر علي عبد الرازق الذي نفى عن الاسلام طابعه السياسي عند تعرّضه لمسألة الخلافة كي تسحبوا البساط من تحت أقدام الاسلام السياسي؟
ألستم أنتم من ينقد التصوّر الثقافوي عن الظواهر، ويفترض أن يتمّ ذلك عند دراسة الاسلام ايضا، وتنادون منهجيّا بتحليل ممارسات المسلمين الواقعيين التاريخيين عوض تحليل مجرّد وجاف للنصوص تتهمون به النصانيين الشكلانيين من الاسلاميين؟
ألستم أنتم من ينادي بالقراءة التاريخية والمجازية والرمزية والمقاصدية والباطنية ...ضدّ القراءات اللاتاريخية والنصية والحرفية والظاهرية وغيرها للنص الديني؟ ألستم أنتم من يتحدث عن اسلام الخاصّة (من الفلاسفة والعلماء والمتصوفة...) واسلام العامّة؟
ألستم أنتم من يتحدّث عن الاسلام التونسي (السني المالكي-الشافعي -الزيتوني) والاسلام العربي والاسلام التركي والايراني والماليزي والافريقي والمهجري؟ ألستم أنتم من يتحدث عن الاسلام الاسلاموي والاسلام القومي والاسلام الليبيرالي وحتى الاسلام اليساري أحيانا؟
لم ينسى بعضكم كلّ هذا، وهو صحيح عموما، وبمجرّد وقوع عملية ارهابية باسم الاسلام تسارعون الى اعتبار منفذها /منفّذيها ممثلا /ممثلين للإسلام وللمسلمين من باب النكاية في الاسلاميين؟ ألا تعرفون أنّ الارهاب قد يظهر أيضا باسم الديمقراطية والفوضوية والشيوعية وليس فقط باسم الأديان التوحيدية أو غير التوحيدية؟ ألم يمارس الارهاب العسكري / الديني (المسيحي تحديدا) باسم الحرية والليبيرالية والديمقراطية خاصة في المستعمرات؟ ألم تظهر حتّى تنظيمات يسارية فوضوية وشيوعية اعتمدت الارهاب طريقة في النضال كتنظيم ’العمل المباشر‘ في فرنسا التي يكثر حولها الحديث الآن تحديدا؟
وأليس لهذا السبب بالذات يقال انّ 'الارهاب لا دين له'؟
نعم، 'الارهاب لا دين له' فعلا ولكن بالمعنى التالي - وهنا لا بدّ من التوجه أيضا الى الاسلاميين -: الارهاب لا دين له بمعنى أنّه لا يوجد دين واحد بعينه يمكن أن يبرّره أو يمارس باسمه (في اشارة الى حصره في الاسلام هنا باسم اسلاموفوبيا حقيقية) اذ يمكنه أن يمارس باسم كل الأديان (والايديولوجيات).
هنالك تنظيمات يهودية ارهابية تماما في اسرائيل لا يظهر عنفها الا لأن الدولة هناك تقوم بالواجب وزيادة ضد الفلسطينيين. وقد عرفت المسيحية المعاصرة تنظيم 'الكلو كلوكس كلان' الارهابي في الولايات المتحدة مثلا والدولة هناك كانت تقوم بالواجب أيضا ضدّ السود. بل ان الرهبان البوذيين (ويقال مفارقة أن البوذية دين اللاعنف بامتياز!) يمارسون الارهاب اليوم ضد المسلمين في بورما.
انّ الفكر والسلوك الارهابي هو احتمال ارهابي كامن عموما في كل رؤى العالم الشمولية ويظهر ويتحقق عند توفّر جملة من الشروط المركّبة. )داخلية وخارجية - فردية وجماعية - اقتصادية وسياسية واجتماعية و نفسية/ ثقافية ...) الضرورية لتحققه و التي تلعب رؤى العالم الشمولية تلك دورها في تبريره رمزيا (بوصفه عنفا ولكن من نوع خاص) خاصّة باسم المقدّس (الديني أو الدنياوي) وباسم الحقيقة (الدينية أو الوضعية) ولكن دفاعا عن مصالح أفراد و جماعات غالبا .
بمعنى ما، انّ الارهاب باسم الاسلام والمسلمين لا يمثل دين الاسلام ولا المسلمين ' مثلما ' لا يمثل بول بوط والخمير الحمر في كمبوديا فكر ماركس والشيوعيين - مع أخذ كل الفوارق بين الدين (السامي والآسيوي من ناحية مثلا) والايديولوجيا الحديثة (الماركسية أو غيرها) بعين الاعتبار طبعا عند التحليل كي لا نسقط في مقارنات سطحية.
انّ الارهاب اذن، من حيث أسسه الفكرية، هو فقط امكانية كامنة بسبب شمولية رؤية العالم تلك وقابليتها للتأويل بطريقة ارهابية تظهر في ظرف ما دقيق (يجب تحليله) ويمارسها أشخاص بعينهم (يجب تحديدهم) يجدون أنفسهم عادة في ظروف استثنائية (يجب الانتباه اليها) تجعلهم يمارسون شكلا استثنائيا من العنف يسمى ارهابا (لا يجب انكاره) يحتاج فهما ومقاومة في نفس الوقت.
أن يكون ارهابي نيس مسلما، اذن، لا يعني أنّه يمثل الاسلام والمسلمين، تماما كما لا يعني أنّه يمثل تونس والتونسيين بسبب جنسيته التونسية. ولكن امكانية ارهابية ما ضامرة في الاسلام وفي حياة المسلمين (بسبب خصوصية فيهما ولكنّها ليست استثنائية) وفي تونس (بسبب خصوصية فيها ليست هي الأخرى استثنائية) وجدت ظروفا لتحققها وشخصا لتنفيذها في مكان وزمان محدّدين وضدّ طرف محدّد مما يستوجب تحمل المسؤولية ليس فقط في التحليل و التنوير بل كذلك في الاصلاح والتثوير.
انّ الأمر مهمّ جدّا منهجيا وسياسيا ولم يعد يقبل تأجيلا في تونس الآن لمن يؤمن أنّه يجب عليه أن '‘يدافع عن عقله كما يدافع عن حصون مدينته '‘ ووطنه ولمن لم يصب بانسلاخية ثقافية عدميّة عامّة تجعله يتنكر لشعبه ولتراثه الثقافي حتى لو كان ملحدا عقيديّا و كان علمانيّا سياسيّا.
يا أيها الحداثيون التّونسيون،
هل تعرفون معنى أن تقولوا أن الارهابيين هم الذين يمثلون الاسلام و المسلمين؟ معناه أنكم، دون أن تشعروا، تقولون للمسلمين غير الارهابيين انّكم لستم مسلمين! وهذا بالتحديد ما يريده الارهابيّون.
أيّها الحداثيون التونسيّون،
دافعوا عن شعبكم وعن حداثته دون التنكّر للثقافة العربية - الاسلامية، فالحداثة الغربية (الأمريكية و الفرنسية وغيرهما) لا تتنكر لا للثقافة اليهو- مسيحية و لا للثقافة اليونانو- رومانية، و الحداثة الشرقية (الصينية واليابانية وغيرهما) لا تتنكر للثقافة الكونفشيو-طاوية بل تقومان بتحديثهما. واحذروا التطرّف في الكونية فانّه الوجه الآخر للتطرّف في الخصوصيّة وابحثوا متى كان ذلك ممكنا عن مرتبة وسط تجمع بطريقة مركّبة بين الكوني (Universel) و الأكواني ( Diversel -Pluriversel) و الخصوصي ( Particulier).
وليكن الدفاع عن الشعب وحداثته عقلانيا جديدا وأنسنيّا جديدا في نفس الوقت وذلك في افق تحرّري جديد: عقلانيا جديدا لا ينفي بل يفترض امكان مشاركة العقلنة الدينية نفسها ، وأنسنيا جديدا لا ينفي بل يفترض مشاركة الأنسنة الدينية نفسها ، وتحرّريا جديدا لا ينفي بل يفترض مشاركة الحرّية الدينية نفسها وذلك ضدّ النظرة الجوهرانية السلبية للدين وللتدين التي تؤدّي الى تصوّر عقلانوي الحادوي و/أو علمانوي متطرّف لا يفعل سوى أن يردّ الفعل على نظرة جوهرانية سلبية للحداثة عند الاسلاميين بوصفها كفرا وظلما وفسادا. .