تلعب الطقوس الدينية والشعائر المقدسة، دورا عظيما في الحفاظ على المخزون الروحي للإنسان الإفريقي، فهو رغم حيف الحقبة الاستعمارية، ورغم الأمراض والأوبئة، ورغم التهميش والإهمال، ورغم العنصرية التي نفته دهورا، ظلّ مسكونا بهاجس الإبداع والخلق، ذلك أن القارة السمراء، قارة غنية وثرية جدا بالموروث الشعبي. ورغم تعرضها للنهب إلا أنها ظلت على صلة دائمة بالإبداع والخلق، حتى أن المستعمرين أنفسهم تأثروا كثيرا بالفنّ الإفريقي، بل وكان منقذهم من الكلاسيكية وأطرها الخانقة، لأنه كان متشاكلا مع السحر، أي أنه تجاوز المادية والعلم والثبات والتحجر، في سبيل الدفاع على آخر الحصون الإنسانية، ألا وهو البعد الروحي في الإنسان. ولقد وصل الحدّ بالأفارقة الاعتقاد في أن رسوماتهم ومنحوتاتهم وتماثيلهم، ذات طابع خرافي مقدس، من شأنها محاورة الغيب والمقدس وطرد الأرواح الشريرة، وهذا الاتجاه لم يصله الغرب إلا حديثا، وهو ما يعكس السبق الإفريقي في مجالي الفن والإبداع. وبحثنا هذا، يضع كتاب "الفن الإفريقي" محور مراجعه نظرا لإحاطته الشاملة بهذا الموضوع، وهو كتاب لصاحبه "أسامة الجوهري"، وينقسم إلى بابين، كلّ منهما يحاول رصد طبيعة هذا الفنّ في الصحراء الكبرى وجنوبها.
فنّ الرسم على الصخور
تنتشر المواقع الأثرية لهذا الفنّ في منطقتين، الأولى تمثلها الصحراء الكبرى في شمال القارة حيث الجزائر والجنوب المغربي وفزّان في ليبيا والنيجر والتشاد وأثيوبيا وموريتانيا، أمّا المنطقة الثانية فيمثلها جنوب القارة الإفريقية بالتوازي مع المحيط الهادي والمحيط الهندي، حيث نشهد ليسوتو وبوتسوانا وناميبيا ودولة جنوب إفريقيا. أمّا الفترة التاريخية التي تعود إليها هذه الرسومات التاريخية، فقد كانت موغلة في القدم، ووصلت إلى حدّ العصر الحجري الحديث، وهي لم تتلف لا لشيء إلا لأنّ الجفاف والهجير وطبيعة المناخ ساهموا في ذلك.
تمثل هذه الرسومات لوحات فنية جدّ رائعة، كما أنها تحمل غرابة لا تحدّ نظرا لقيمتها الجمالية العالية، فبمجرّد البحث، نلاحظ صور الفيلة على جدران الكهوف والصخور، وبالقرب منها مروجا خضراء من النبات، كما نشهد أيضا صورا ورسومات لأفراس النهر والتماسيح بالتوازي مع الأنهار والضفاف والبحيرات. وانّه بمجرد العودة إلى التاريخ الإفريقي، نمسك بالعديد من الحقائق، إذ أن طبيعة المناخ في تلك العصور كانت على غير ما هي عليه الآن، وتمثلت في كون هذه القارّة قد عرفت ذات أزمن سنوات من الخصب لا الجفاف، وان الصحراء كانت مروجا وبحارا، وهو ما يمكننا بالتوغل في تحليل شفرات اللوحات والرسومات والألوان، من فهم حياة الإفريقيين بشكل أوسع.
لقد استخدم الفنّان الإفريقي العديد من الألوان، وانه بمجرد التساؤل عن سرّ لمعان الرسومات برغم مضيّ الآلاف من السنين، اكتشفنا أنه كان يطحن الصخر والمعادن ثم يخلطها مع بعضها البعض ليضيف إليها موادا من قبيل زلال البيض أو العسل أو سوائل نباتية، وهي طريقة بدائية لكنها ناجعة بشكل كبير.
يجمع الدارسون في علم التاريخ، على أن الفنّ الإفريقي- الصحراوي أقدم بكثير من الفن المصري- الفرعوني، واستدلوا في ذلك بصور الثيران التي ظهرت قبل ظهور رموز الآلهة الفرعونية، وبصورة الكبش في منطقة "يوالم" والتي قيل بأنها أقدم من صورة كبش آمون التي ظهرت في مصر خلال الأسرة الثامنة عشر.
أمّا عن الوسائل والأساليب المتوخّاة في الرسم فقد اتبعت مراحل عديدة ومتفاوتة زمنيا، ففي البدء تمّ استعمال الرؤوس المستديرة وقد كان ذلك قبل 6000 قبل الميلاد. إذ نرى من خلال الرسومات المصاحبة للكتاب، الوجوه الخالية من الملامح وهو أسلوب استمرّ أعواما طويلة، و المرحلة الثانية سمّيت بأسلوب "الرعي" وقد كانت في فترة ما قبل الميلاد بخمسة ألاف سنة وتميزت عن الأولى باهتمامها بتفاصيل الرسومات والتدقيق في مواضيعها، وفي ما بعد جاءت مرحلة جديدة سمّيت بعصر الحصان في سنة 1200 قبل الميلاد، وفيها رسومات تتضمن الخيول المعدّة للحروب وهو ما يعكس أن الأفارقة في تلك الحقبة قد شهدوا تواصلا مع ثقافات أخرى غازية، أمّا المرحلة الرابعة فقد عنونت بعصر الجمال، وهي مرحلة سبقت الميلاد بألف سنة، حيث تميزت إفريقيا في تلك الفترة بزحف الصحراء، وهو ما برّر تعويض الجمال للخيول.
إنّ الواقع الإفريقي، والظروف الحياتية المريرة، هي التي انعكست على مخيلة الإنسان والفنان هناك، فحاكاها بدقّة بارعة، كما أضفى عليها طابعا سحريا وغامضا، ممّا يجعل من تحليل شفرات اللوحات الفنية التي تضمنتها صفحات الكتاب الذي نحن بصدد قراءته صعبة المراس ومنفلتة عن الفهم، ولا سبيل للوصول إليها إلا بفهم المراحل والسياقات التاريخية التي رسمت فيها.
الفنّ الإفريقي في جنوب الصحراء
يعود الكتاب الذي نحن بصدد دراسته إلى العديد من الحضارات القديمة جنوب الصحراء الإفريقية، مبرزا بذلك خصوصياتها الفنية، ففنّ التراكوتا هو عبارة عن طين نضيج، ويتمثل في كيفية صنع التماثيل صغيرة الحجم، وعمرها يبلغ حوالي ألفي عام، كما أنه أيضا غني بصناعة الخزف عبر حرق الطين. وقد تمّ اكتشاف جزء كبيرا من هذه الآثار في قرية "نوك" بوسط ليبيريا، ووصل عدد التماثيل التي تمّ اكتشافها في خمسينات القرن الماضي إلى حدود 150 تمثالا، ويصل الواحد منها إلى 1.20 متر، وهو ما يحيل على قدرة إبداعية كبيرة للفنان الإفريقي.
بالإضافة إلى ذلك، شهدت مدينة "إيفي" فيما بين سنة 1983 وسنة 1963، حفريات كبيرة مكنت من اكتشاف قطع فنية رائعة، وتمثلت أساسا في كونها عبارة عن رؤوس ملكية محمّلة بكثير من الألوان، كما تمثلت في تماثيل بشرية متكاملة وحيوانية متقنة الصنع. ويذهب مؤلف الكتاب بالقول إن الغالبية العظمى من هذه التماثيل تعود للقرنين الرابع والخامس عشر، كما أن صرح وفق الصور المصاحبة لكتابه إن بعضها تمثل أشخاصا في أوضاع انحناء وهم راكعون ويضعون أيديهم على ركبهم، وتكون أجسادهم مغطاة أحيانا بكور من الطين، كما توجد الثعابين على ظهورهم ورقابهم.
أمّا سنة 1897، فقد مثلت نوعا من اغتيال الفنّ في البينين، بعد أن استوطن الانجليز هناك وعثورهم في قصر الأوبا على رؤوس ملوك بنين المنحوتة والمصنوعة بالنحاس الأصفر، إلا أنهم لم يعرفوا حقيقة ما عثروا عليه فدمروها إلى حدّ تمّ فيه خصي البعد الفني في تلك المنطقة. لكن الأوروبيين بعدها عرفوا ذلك باكتشافهم لألواح مغطاة بصلبان موضوعة داخل دوائر متفرقة أو زهرات رباعية الأوراق وهي رموز تشير إلى خلق العالم.
إضافة إلى ذلك، عرف عن الأفارقة شغفهم بالأساطير والرقص والاحتفالات، فأبدعوا في مجال الفنّ أقنعة رائعة، وقد كانت لصيقة بطقوس "الرافيا" ذات الأضاحي والشعائر، وما القناع الا رمز للموت الذي يتجدد بتجدد هذه الاحتفالات، فهناك قناع الشامبانزي الذي يعطي المشهد الدور الذي لعبه في الماضي عندما أنقذ الأسلاف الذكور من القرويين، فبعد أن يأكلوا ثمرة الفاكهة التي أعطاهم لها الشامبانزي يستسلمون لنوع من الخدر فيعتقد الأعداء أنهم ماتوا، ومنذ ذلك الوقت ظلت ساحل العاج صاحبة هذا الطقس لا تأكل الشامبانزي ولا تقتله. وبالإضافة إلى هذه الوظيفة التي تميز بها القناع، هناك أيضا وظائف أخرى لعبها في مناطق مجاورة كحضوره في طقوس الإخصاب في غينيا ومالي والكامرون، اذ تأخذ القبائل قناع "النيمبا" ليتم الطواف به في المروج والحقول، وعندما يرى الفلاحون القناع يتضرعون له من أجل حماية محصولهم، كما أن له أدوارا أخرى اذ أن المرحلة التي يقبل فيها الشخص إلى جماعة الرجال أو النساء في القبيلة تعدّ مرحلة حرجة عند هؤلاء الصبية الذين بلغوا مبلغ الرجال، ممّا استوجب حضور القناع.
إنّ من بين الأشكال الفنية الأخرى، والموغلة في الغرابة، تلك الأوعية التي جعلت لحفظ رماد الموتى، وقد سميت بالمذاخر، حيث يكون التمثال الصغير فيها منتصبا فوق الرفات، كما يمكن أن يصبح عكس ذلك كأن يكون الرفات موضوعا داخل التمثال كما كانت تفعل قبائل "الأمبيتي" أو " المبيدي" التي تعيش في منطقة الحدود بين الكونغو وشمال الغابون، كما أن قبيلة "الكوبو" بالكونغو تبنت هي الأخرى صنع مذاخر على هيئة جسم بشري، وعادة ما كانت هذه التماثيل مفتقرة لليدين والجسم طويل. وكإضافة إلى ذلك، مثل فنّ الزخرفة عند "الكوبا" في الكونغو، إبداعا مميزا نظرا لتميزه بالثراء الشديد كما أنه يغطي كافة الأشياء التي يستخدمونها في حياتهم اليومية، وهي أشياء صنعت لأغراض جمالية بحتة.
الفن الإفريقي في قبضة التجار واللصوص
يشير صاحب الكتاب إلى أن إفريقيا، تعرضت لأكثر من عملية سطو، وإلى سياسة ممنهجة تهدف إلى إفراغها من جاذبيتها وسبقها الفنّي، وإلى نهب شامل دمّر آثارها وإبداعاتها كما سرق خصوصيتها وأسرارها الفنية، فقد مثل القرن التاسع عشر، وهو زمن الحقبة الاستعمارية، خطرا عظيما وطوفانا أباد المخزون الروحي للزنوج، ذلك أن عمليات المصادرة والاستيلاء على المواد الثقافية قد تعاظمت، كما أن الأوروبيين قد تحصلوا آنذاك على قطع افريقية جعلت منهم يتكالبون ويتسابقون في سبيل نهب المزيد منها، ولعلّ التماثيل التي اشتراها "تشارلز" من "الغاردي فير" في أفريل 1470 أفضل دليل على ذلك، ولكنها ضاعت بعد أن ضرب زلزال عنيف مدينة لشبونة سنة 1700.
هذا وقد نهبت العديد من الآثار الإفريقية، بطرق قانونية ولا شرعية، فشهدت رحيلا إلى المتحف البريطاني الذي تم إنشاءه سنة 1753، وإلى المتحف الألماني في برلين الذي احتوى سنة 1886 على حوالي 10 آلاف قطعة أثرية. وكان أمين عام متحف الكنغو- البلجيكي، قد صرّح بوجود عشرين ألف قطعة أثرية من الكنغو وحدها، في المتاحف الأوروبية. وليس هذا فحسب، فقد تمادت الخارجية البريطانية لتبيع حوالي 1000 صفيحة من البرونز المنحوتة، كانت قد أخذت من قصر "الأوبا" في البينين. كما أن الألماني "فروبنيوس" كان هو الآخر قد تحصّل على عقد يبيح له جمع 9000 قطعة لحساب متحف "هامبورج"، وهو ما جعل منه يجرّد "الكوبا" من مصنوعاتها ولوحاتها الفنية في الكونغو.
إن هذه الممارسات اللصوصية، التي ذهبت محاولة تجريد الثقافة الإفريقية من عمقها الفنّي، إن كانت تعكس شيئا فهي لا يمكن إلا أن تثبت أن الغازي والمستعمر أو العنصر الأبيض القادم من وراء البحار، لا يمت للفن بأي صلة، لأنه لا يرى فيه إلا تجارة وربحا، تماما مثل سلوكاته الاستعمارية الملفّعة بغير قليل من الجشع والاستحواذ والسيطرة.
لمزيد من التوسع يرجى العودة إلى الكتاب الذي اشتغلنا عليه
-الفن الإفريقي، أسامة الجوهري، مكتبة الفنون التشكيلية، هلا للنشر والتوزيع، ط 2003