إبراهيم الكوني مسلوخا عن جلده في رواية 'توجان'

تطلّ علينا المحافل الأدبيّة لا من بوابة الإبداع، وإنما من قبيل سياسة كرنفاليّة همّها الوحيد المشهديّة لحظة توزيعها الجوائز، دون اعتبار ما إذا كان الإنتاج الأدبيّ يتوفّر على الأدنى من القيمة التجديدية أو كان بالفعل لصاحبه المترشّح، فكثير من الإصدارات الحديثة يقف عند حدود الانتحال، لا سيما بعد السيولة الكبيرة للنشر وتحوّل الكتابة إلى ضرب من ضروب “الموضة” المعاصرة في أسواق شيّأت الإنسان وخلت مدنها من شعراء وروائيين كبار.

ليس ثمّة من مثال حيّ ونموذجيّ عن التصحّر الثقافيّ في السائد من الكتابة الروائيّة، أكثر من هذه التراجيديا التي تجد منبتها في محافل المهزلة الأدبية وكرنفالات الجوائز المقدّمة إلى بعض الكتاب، وقد تمكّنوا من اقتطاع أكداس من لحوم طريّة وعظام غضّة لروايات سبقتهم ثمّ نسبوها مغالطة إلى كتاباتهم.

ما يغذّي هذه التراجيديا وقد صارت محض فعل تراجيكوميديّ هو ذلك التداخل بين جسدين مصطلحين هما التأثر والتناص، وكأنّ موت المؤلّف بارتيّا لم يعد غير حصان طروادة جديد يشرّع لعمليّة السلب.

سلخ الكوني

في هذا الإطار يبدو أن جائزة الكومار الذهبيّ- التي تمنح للرواية- الأخيرة في تونس حقّقت تأبينا أدبيّا للروائي العالمي إبراهيم الكوني، من خلال الرواية الفائزة “توجان” لصاحبتها آمنة الرميلي والصادرة عن دار آفاق للنشر بتاريخ هذه السنة 2016، فما يلاحظه أبسط قارئ هو أن الروائية قامت بتمزيق أوصال الجسد الكتابيّ لجلّ روايات إبراهيم الكوني، ثم حاولت بعدها إعادة تركيبها في عملها.

بغض النظر عن التزكية التي شهدتها الكاتبة من خلال تحصلها على الجائزة، فهي تقودنا إلى تسليط الضوء على الكتابة الأصل، لا من قبيل تقديسها وأسطرتها حدّ التمركز، وإنما من جهة الأخذ منها، حيث تمّت إعادة استحضار لكتابة الكوني بضرب من ضروب السطحية والاستنساخ والتكرار.

ما من شكّ أن قارئا جادّا لإبراهيم الكوني سيقف مذهولا حين يقلب الصفحة تلو الأخرى من رواية “توجان”، فسديم الكوني المرعب من أساطير وصحراء وقبائل وأحاج حول السيل ورمزية الماء، إضافة إلى قصص العاطفة وهوس الاغتراب والخوف من المجهول وحنين الروائي وغوائل مشاعره ضمن ذلك القحط الجغرافي وأتعاب البدو ومعاركهم، هو نفسه ما يتكرّر في هذه الرواية.

أن نقطّع أوصال سيرة روائية عظيمة صاحبها إبراهيم الكوني، ثم نعيد كتابتها في رواية واحدة هذا ما فعلته المحصلة الكتابية “توجان”، إذ لم تتعدّ كونها محض تجربة “دراماتوروجية”، حاولت أن تنسينا إبراهيم الكوني فإذا بها تسلخه عن جلده، ممّا يدفعنا ضرورة إلى عقد مساءلة إزاء هذا الأمر، إذ أنّنا بهذا الشكل مجبرون على الإشارة إلى مواطن التشابه.

فمن زوريخ ومدن الثلج الأخرى يكتب الكوني حنينه إلى الصحراء، عذاباتها وطقوسها، ومن كندا ولد بطل رواية في “توجان” له نفس الحنين إلى صحراء مشابهة، لكن صار اسمها توجان، بينما تمّت موضعة الجسد المصطلحي “صحراء” ليكون اسم إحدى الشخصيات في هذه الرواية، وفي روايات الكوني “المجوس” ورباعية “الخسوف” لا سيما منها “البئر” يكون الماء مموضعا ضمن سرديات الميثيولوجيا إذ يسرد تراجيديات الإنسان العظيمة ضدّ الحرّ، تماما كما نقرأ رمزيته ومدلولاته في رواية “توجان”، إذ هو نفسه السيل في الواحة، كما له نفس الوقع على القبائل والعشائر، من خلاله تتحوّل الحياة وتتبدّل بمجيئه وغيابه.

إنّها نفس صرخة القيظ التي يطلقها أحد أبطال رواية “المجوس” يطلقها الآن بطل رواية “توجان” في الفصل المعنون بـ”توجان الماء، توجان الدمّ” بالقول “ماذا رأيتم أنتم من العطش”؟، وإنّ هجيرا يمزّق الخيام ويلفح الوجوه ويشرّد النّاس ويقتل القطعان بنار الحرّ في الواحات المرسومة كتابة أيضا في روايتيْ الكوني “نزيف الحجر” و”خريف الدرويش” وهو نفسه ما كتبته آمنة الرميلي بالقول وفق ما يلائم صياغتها، من نفس الفصل المذكور سلفا من روايتها، “ذات موسم من مواسم القحط يقول أبي كادت توجان تفرغ من أبنائها، منهم من مات عطشا ومنهم من هجّ، ومنهم من قايض بالماء زرعه وقطيعه وحتّى عرضه”.

إضافة إلى ذلك كثيرا ما تحفل معظم روايات الكوني بذلك الصراع الذي يشتدّ في كلّ مرّة بين قبيلتين بسبب التنازع على الآبار ومياهها، وها أنّنا نقرأ نفس الصراع أيضا في الصفحة الثالثة والستين من رواية “توجان”.

شخصيات مسلوبة

عديدة هي ضروب التشابه، فشخصيات الرواية، مثلا، متشابهة إلى حدّ مثير، فبينما ثمّة شخصيات الودّان الصحراويّ لدى إبراهيم الكوني يولد أبناء الغزال في توجان، وبينما ثمّة شخصية تافاوت في رواية “الربّة الحجريّة” للكوني ثمّة أيضا صابرة الحمراء في “توجان”، إذ تكاد الشخصيّة الأولى تكون الأمّ الغائبة والمجهولة التي تبحث عنها صابرة، صابرة التي اقتطعت لها الروائية آمنة الرميلي أبعادا من شخصيّة الدرويش التي اشتغل عليها الكوني أيضا، فهي وإن كانت عارفة بما يجري بين العرشين المتخاصمين وبكل ما يحدث في “توجان” المكان، مثلها مثل العرّافة في رواية “المجوس”، إلا أنّها هنا تلعب مصيرها/القدريّ من خلال سلوك تلك العرافة ضدّ الدرويش ذاته، حتّى أنّنا في رواية “المجوس” نقرأ في الصفحة السابعة والأربعين بعد المئة “نتفوا الشعر من رأسه، غرغروا له سائل الفلفل في أنفه، قيدوه في وتد وتركوه في جهنّم الرمضاء عاريا. وتسلّوا أكثر من مرّة فدلدلوه في البئر”.

Photo

الروائية التونسية آمنة الرميلي تسطو على إبراهيم الكوني

ونقرأ في الصفحة السادسة بعد المئة من “توجان” ما يلي “ابنة توجان وغريبتها، لغزها الذي لم يشأ أيّ من العرشين أن يحاول حلّه حتى لا ينفجر في وجهه” وهي التي وجدت في بئر مجهولة النسب وماتت في بئر، هكذا يتمّ التضليل عن تداخلات عديدة، إذ تأخذ الشخصية الواحدة في “توجان” أكثر من بعد لأكثر من شخصية من شخصيات روايات إبراهيم الكوني، فصابرة مثلا قويّة كالعرافة، ومنبوذة كالدرويش. فمعظم الأبطال وإن اختلفت تسمياتهم عن تلك التي نجدها لدى إبراهيم الكوني، فإنّهم ظلوا محافظين على نفس الأبعاد، فالصحراء بما لها من امتداد وعوالم وفضاء مفتوح وحدها التي تحمل نقيضها الماء، تتحوّل إلى شخصية في توجان، شخصية تقول لعاشقها سلطان في الصفحة الثامنة والأربعين بعد المئتين “في الماء سرّ يا سلطان ولا بدّ من البوح به”، ولكنه يغدر بها ليعرّض مصير قبيلته وأسلافه إلى خطر داهم فتكون حكايته شبيهة جدّا بحكاية البطل آمغار في رواية “الربّة الحجريّة”، خاصّة وأنّنا نقرأ في صفحتها الثمانين بعد المئة “إنّه الوحيد في النهاية الذي يعلم أن في نجاته حياة الصحراء، وفي اختفائه زوال القبيلة وفناء الأجيال”، وهو الأمر ذاته ما حصل مع سلطان في غيابه إذ مات والده وصارت توجان غير توجان بعد هجرته، تماما كما لو أنّ الروائية آمنة الرميلي تعيد مجريات الحدث وتشغيله من جديد وفق ما حدّد له إبراهيم الكوني في روايته “ديوان النثر البرّي” بقوله في الصفحة الحادية والثلاثين بعد المئة “يقتل الصحراويّ نفسه في شبابه جريا وراء العشق والنساء، ويقتل نفسه في شيخوخته جريا وراء الحكمة”.

يدفعنا هذا الأمر، وبضرب من التأويل (الهرمونيطيقي)، إلى القول إنّ شخصيات روايات الكاتب الليبي باتت وكأنّها أدوار مسرحيّة، على شخصيات روايات “توجان”، القفز إليها وأداء أدوارها بما يتطلّبه الركح المسرحيّ من تغييرات هو الآن يتّخذ شكل رواية جديدة تفوز صاحبتها بجائزة وطنيّة.

ما يزيد من شكوكنا، وإن كنّا نراها أقرب إلى الحقيقة منها إلى التحامل، فشخصيات “توجان” من حيث أجسادها المصطلحية، تكاد تكون حاضرة جميعها في الكون الكتابيّ لإبراهيم الكوني، فسلطان بطل رواية “توجان” نعثر عليه في رواية الكوني “المجوس”، والصحراويّ الذي نقرأ عنه في الصفحة العشرين من تلك الرواية على أنّه ينتقل كالغزال، نجده في رواية الرميلي في صياغة جديدة الجدّ الفارح الغزال، كذلك العرّافة المتسمة بالقوّة والسحر والغموض في معظم أعمال الكوني تعجن الآن لتطل علينا في شخصية عائشة التي نقرأ عنها في الصفحة السبعين بعد المئة في “توجان” بوصفها حكمت الذئاب وشاركت مجالس الشيوخ.

يطل علينا الكوني

ثمّة في المقابل كون أسطوريّ تتحرّك فيه عوالم الشخصيات لإبراهيم الكوني، أي جانبها الغرائبيّ والعجائبيّ، منه اتخذت آمنة الرميلي سبيلها إلى الكتابة، فمثلما تنجح العرافات في ترويض الجنّ في رواية “المجوس”، تأتي الذئاب في “توجان” تطلب الجدّة العائشة، ومثلما تفتك هذه الذئاب بالمواشي في رواية “الربّة الحجريّة”، إذ نقرأ في الصفحة التاسعة ما يلي “الذئاب فتكت بثلث القطيع، والجمال شرّدت إلى صحارى مساك”، تفتك أيضا بمواشي العشائر في رواية “توجان” حتى أنّنا نقرأ أيضا في الصفحة الثامنة عشرة بعد المئة أنّه “لا أثر للذئاب غير روائحها الكريهة مخلوطة بروائح الدماء المنتشرة من بقايا الخرفان والجداء”. وما يزيد الأمر غرابة هو نمط العلاقات بين الإنسان والحيوانات وطبيعتها، فمثلما ينكث العهد في روايات إبراهيم الكوني مع “ودّان الجبل” لتحلّ اللعنة، كما نقرأ عنه في الفصل المعنون بـ“تافاوت” من رواية “الربّة الحجريّة” ينكث العهد أيضا في “توجان” مع تلك الذئاب من قبل أولاد الأحمر على عكس سلالة الفارح الغزال، فنقرأ ما يلي من نفس الصفحة المذكورة سلفا “أولاد الأحمر أوّل من نكث العهد مع ذئاب الجبل منذ ذلك العهد القديم، ولا يزالون في صراع لا يتوقّف”.

Photo

إبراهيم الكوني: التشابه مع روايات الكوني تثبته شخصيات بنفس الأبعاد وحكايات بنفس الصياغة وأمكنة وأزمنة وأساطير هي نفسها حتى في التوظيف

حين نقرأ أيضا رواية “واو الصغرى” من السيرة الرابعة لإبراهيم الكوني، نجد ذلك العاشق الذي اختفى بعد أن تسبب في موت معشوقته ثم عاد إلى الظهور ليسرق قبرها، بينما نجد صدى لذلك في “توجان” من حيث قصّة “صالح وحيزيّة”، فهو (أي صالح) المتسبب في موت حبيبته إلا أنّه، ولرفع التشابه، وفق ما نقرأ في الصفحة الثالثة والخمسين بعد المئة “يظهر مرّة في العام، في مثل تلك الليلة التي طلعت فيها روحه وهو ممدود إلى قبرها”. وفي “واو الصغرى” وباقي روايات الكوني تحضر الأهازيج والأشعار بغير الفصحى، فتحضر أيضا في “توجان” في أكثر من موضع، ومثلما ينشأ الطقس الاحتفاليّ من زغاريد ودقّ للطبول في “واو الصغرى” من الصفحة السادسة عشرة، ينشأ أيضا بذات الحاجة في “توجان”، ويمثّل ذلك ضربا من ضروب استنساخ العوالم الأسطورية والاجتماعية واقتطاعها من نصها الأصلي.

ثمّة ما يدخل رواية “توجان” في باب التطابق مع روايات الكوني أكثر ممّا سبق، لا سيما من حيث بنيتها الشكليّة أيضا، فمثلها مثل العديد من روايات الكوني إن لم نقل معظمها، قسّمت إلى مقاطع كلّ منها اتخذ عنوانا أو عتبة لحالها، وهي بنية بسيطة لا يجهد الكاتب نفسه في تكوينها رغم زخم مادتها الحكائية وفرادة عوالمها مثلما نقرأ في روايتي “التبر” و”نزيف الحجر” حيث نجد وحدة الموضوع وانفتاح النص وقلّة الشخصيات، تماما كما هو الحال في “توجان” التي تروي حكاية من حكايتها هي في الأصل ما يريد سلطان قوله عنه وعن حبيبته صحراء وسرّ الماء كيف فرّقهما وفرّق الأهل.

إضافة إلى ذلك، فالمعاجم نفسها تتكرّر، حتى في توظيفها، في شكل هجرة من عوالم الكوني إلى عالم آمنة الرميلي، إذ نجد أنفسنا أمام ذات التعابير من نفس السياقات الزمانية والمكانية، كالقحط والعطش والصحراء والماء والأسلاف والخرافة والذئاب وإلى غير ذلك من معاجم أخرى، مثلما تحمل المدينة نفس الروح المناهضة لصحراء الكوني و”توجان”، من اغتراب وتظلّم وقهر واستبداد، بينما تظلّ هذه الصحراء/ توجان منبعا للحرّية والمطلق.

من هناك كان يطلّ علينا الكوني، بدم الإنسان المصبوغ بروائح الرمل والأساطير والقوّة والضعف، والخرافة والأحجية، والعادات وأغاني الطوارق في الصحراء أو الواحات، ومن هنا ولدت “توجان” من ذات الصخب الكتابيّ، موظفة نفس الأسلوب ونفس الوجع البشري بذات السبب ومن منطلق نفس الفكرة، وبنفس الآليات الكتابيّة، حتّى أنّها ظلّت رهينة ذلك العالم، عالم إبراهيم الكوني، حيث أنّ محاولتها لم تتجاوز استنساخه، بل عمدت إلى إعادة طلاء روايات هذا الكاتب العالميّ بما تخفيه رغبتها في حجب جوهرها ومعانيها عبر عمليّة إخراجية وشكلية لم تتجاوز حدود القشرة الخارجيّة.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات