في الدّم بين جناحي الموت، تفرض المعادلة يقينها المرعب، تنتفي الفكرة والعقيدة والإيديولوجية، وتبقى وحدها الرصاصة سيّدة الموقف، تلك التي تجعلك قاتلا أو مقتولا. لكن ما الذي يدفع جنديّا إلى التقاط صورة مع ضحيّته، تلك التي كانت تواجهه كي تفري عظامه فريا، وكي تقدّمه قربانا إلى ربّ متخيّل علّه يباركها ببعض من هباته؟ ما الذي يجعل من هذا الجنديّ يقف مبتسما بينما بلدته العسكريّة تنزّ دما من جراحه؟ كيف تكون له القدرة على فتح هاتفه كي يسجّل رقرقة الدم المنساب من ثغرة فتحتها رصاصته في عنق إرهابي؟
هل يعدّ ذلك بطولة أم ثأرا بالغا في التنكيل من ذلك المتوحّش الذي قتل من قبل زملائه وبات يهدّده كلّ يوم؟ وهل من الممكن أن نسجّل ذلك على أنّه عقيدة وطنية والحال أن مرمى الجهاز العسكري يكاد يخلو من ذلك أم أنّنا سنسجّله رعبا استوطن قلب الجندي فكانت حربه ضدّ أسراب الموت القادمة في اتجاهه حرب وجود خاصّة وأنّه المستهدف الأوّل بوصفه طاغوتا في سجّلات الجراد الدمويّ.
يجدر بنا حتما القول بأنّنا صرنا إزاء تشغيل مرعب لخاصيتنا وقد باتت لا انسانيّة، وإنّه لمن الواضح أن ارهابيّا بتعلّة اللـه الاسلاميّ قطف رؤوسا وذبح أطفالا وشوى أكبادا وشرب من جفنة مليئة بدم الضحايا، يفتقد اليوم لأيّ نزعة بشريّة بعد سلسلة مريرة من الخصي التي تعرّض لها عقله حتّى أنّه صار شاة طيّعة في من أشاروا له بأوامر الموت والتقتيل، كما أنّه بات الآن في نظر ضحاياه وحشا مرعبا كلّما ذكر اسمه إلا واصطكّت الأسنان وارتعبت الفرائص. في المقابل يجد الجنديّ نفسه في خندق المواجهة باعتباره حامل السلاح الأوّل في هذا الوطن، وباعتباره مدركا من خلال تجربته الحيّة والميدانية أنّه لا سبيل لإنقاذ عامّة الشعب الأعزل إلا بحضوره البطولي القائم على نكران الذات والتضحيّة، خاصّة وقد أدرك غوغاء السياسيين والمثقفين التي فشلت في صدّ الخطر الإرهابي، إنّه يجد نفسه محمّلا بأتعاب لو حملها جبل لسمعنا أنينه، هكذا تصبح حربه حربا غير خاضعة لمنطق المناورة وإن كان يحدس أنّه من الممكن أن تكون ثمّة طلقة غادرة في الظهر لو اخترقت مؤسسته العسكرية التي يعمل صلبها.
ينكّل الارهابيّ بضحاياه كي يرضي نزعته السادية، جميعنا نعرف ذلك، ولكن لا أحد منّا تساءل عن الأسباب الحقيقيّة التي حوّلته إلى مجرّد مصنع للفتك والتقتيل، وربّما ما من حاجة مهمّة إلى معرفة ذلك فهو عدوّ يتلذّذ بأكل لحوم البشر لذلك توجّبت عملية التصدي له دون أن نضعه على طاولة التشريح لأنّ ذلك أشبه بأسبقيّة السيف إلى العدل لا أكثر.
يتحوّل الجنديّ بدوره إلى بطل ضحوك، ولكن لا أحد بامكانه الشكّ في أنّ العدوى قد أصابته هو الآخر، فقد عودنا الارهابيون بمحافل صور الموت وقطع الرقاب، وهاهو اليوم بعد انتصاره الذي طالما حلم به يلتقط صورة الارهابي المضرّج في الدم من وراءه، هي لحظة انتصار لا يمكن أن نزيل عنها توصيف الثأر من هزائم كبيرة راح ضحيتها العديد من الجنود في تراب الوطن، فليضحك إذن، إنّ ضحكه مشفوعا بمرارة انسانية تخرّ لها الجبال، فقد كان محتملا أن يكون الآن في قائمة الشهداء.
يبدو أنّنا الآن نتجاوز صدمة الذبح، نسير على أجفان الموت والقبور بخطى مزهوّة بعد أن وضعنا في معادلة قانونها أن تكون قاتلا أو مقتولا، لكن ما الذي تبقّى لنا نحن الكتّاب كي تجترّه حوافر أقلامنا وقد ملّت تحليل الظاهرة الارهابية وقد تجاوزتنا أشواطا كبيرة؟ هل علينا الآن رثاء الانسانية أم مديحها رغم اصطباغها في أوديّة من الدم؟ وهل علينا أن نصفّق لانتصار في حرب نحن مكرهون عليها؟ ثمّة ما لم ندركه بعد إزاء تطاوح عنيف لا يمرّ به العالم فحسب بل وتمرّ به الذات البشريّة في بعدها الأنطولوجي والبيولوجي أيضا، ثمّة تطاوح على ظهر سفينة اسمها الحياة، ربّما مونوتون الطبيعة وحده يعرف ذلك ويدرك تفاصيل أجوبة كانت الأسئلة حولها سيّئة الطرح.