السّيستام و الثّورة : عربدةٌ و رقصٌ و شعوذة

Photo

تبدو لي الثورة يوما بعد آخر في علاقة بالنّظام الّذي تدّعي قيامها ضدّه مثل الإخوة المتصارعين على الميراث .. فالثّورات لا تحمل مشاريعا غير محاولة السّيطرة على السّلطة تحت رايات الشّعارات الّتي تُسيلُ لُعاب الجماهير المقهورة : إنّ ميراث السّلطة سيغري دوما حشودا منبوذة أن تنتهز كبوات النّظام لتدخُلَ عليه من فجوات التّاريخ .

أحمقٌ من يدّعي أنّ الثورة الفرنسية مثلا كانت تحمل مشروعا بديلا منذ آندلاعِها بل كانت حقيقةً مثل ثورات الربيع العربي : نظامٌ متداعٍ للسّقوط فهبّت الجماهير و نفخت فيه فآنهار .. فكانت فوضى و مذابح و حروب أهلية و قد كانت الديمقراطية بمثابة تلك الحالة من التوازن الّتي تحدث لمّا يتعبُ الخصوم من الحرب و يعجز كلّ منهم أن يُفنِي الآخر : ساعتها يدخلون في نفق التّسويات و التوازنات .. فالديمقراطية في النهاية هي نقل المعركة من ساحات الوغى إلى دنيا السّياسة.

الثورة الروسيّة كانت أكثر وضوحا إذ حملت فعلا برنامجًا بديلا و فريدا و لكنّ الشيوعيّة كانت مشروعا ضدّ الطّبيعة البشريّة ، ضدّ مبادئ التّاريخ : تحرير البشر من الفردانية و إلغاء غريزة التملّك و قد أدّى بها ذلك إلى الهلاك سريعا بعد أن أهلكت ملايين من البشر جرّاء أضغاث أوهام خطّها السيّد ماركس بطيبة قلب و عبقريّةٍ تجاهلت حقائق التاريخ الأعمق من صراع الطبقات : التاريخ صراعاتٌ عديدة ليس تصادم الطّبقات إلّا وجها من وجوهها .

الثّورات هكذا دوما .. صراعٌ مرير على السّلطة و روحانيّة السّلطة تبتلعُ الجميع : الثورات و الشعارات و الأحلام .. و لذلك نرى دوما ثوّارًا رائعين يتحوّلون لطغاةٍ جُدُد بأساليب جديدة .. و العبرة فقط للبقاء تكمن في الغذاء و الشّعوذة : شعبٌ شبعان لا يثور فما بالك بشعب شبعان و محكوم بنخبةٍ بارعة في الدّجل و توجيه العقول .

لا أرى من ثورة حقيقيّة في التاريخ غير ما بشّرت به الأديان السماويّة و نَضُجَ نهائيّا مع الإسلام : محمّد ( ص ) عبقريّ التّاريخ بلا منازع قد جاء بالجديد .. المشروع البديل للنّظام و بالمناسبة فالنّظام البشري)السيستام ) تاريخيّا ثابت الأركان لم تتغيّر فيه غير الواجهات و مفاتيح الأبواب و لون النّوافذ : السّيستام هو الإرتكاس للتّراب .. هيمنة الطّبيعة على الكائن المسكون بالسّماء .. إنّه الدنيويّ المدنّس بما يتمظهر من ميول للكسب و الرفاه و الهيمنة و ما يتبع ذلك من مشاعر الحسد و البغضاء و التّنافس و التّفاخر و شتّى الأمراض الّتي نعانيها إلى اليوم .

لقد جاء الإسلام بمشروع حقيقي لتحويل وجهة النّاس من الغرق في الدنيوي إلى التطلّع لمعاني أخرى للإنسان : توحيد الله .. قيم الخير و المحبّة .. تحرير البشر من شرورهم و طواغيتهم .. الجهاد لتحرير الإنسانية من الخطيئة .. من الشّيطان .

أمّا ثوراتنا اليوم فلستُ أراها إلّا تنفيسا لمكبوت في خلاءِ واسع من العدم .. إذ لا مشروع غير السلطة و لا أفق غير البقاء فيها .. و الجميع مستعدّون للتخلّي عن كلّ شعاراتهم من أجل رضاء النّظام الّذي ثاروا عليهِ : الإسلاميين بلا إسلام .. و الشيوعيين بلا شيوعية .. و الدستوريّين ديمقراطيين .. و هكذا دواليك .

نشهدُ اليوم على مستوى العالم آنسدادًا تامّا للآفاق .. فليس ثمّة محمّدا ( ص ) ليحلَّ مشاكل العالم كلّها أثناء فنجان شاي .. و لا حتّى عباقرة من مستوى هيغل و أرسطو و بيركليس و آبن تيميّة .. فالعالم ينهار تماما : إنّ الدّنيا تلتهمُ البشر و الطّاقات و الأفكار و الرّجال .. و لا نرى هنا أو هناك غير العربدة و الرّقص و الشّعوذة .

و أمّا أنا كغريب أصيل فليس أمامي إلّا أن أقطع الصّحراء الشّاسعة وحيدا .. فهناك بعيدا جدّا خلف الآفاق و الغُيوم ينتظرني المعنى شامخا كالجبال و ساحرا كآبتسامة الأنبياء .

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات