قرأتُ رواية "الحبّ في زمن الكوليرا" للعبقريّ الفذّ غابرييل غارسيا ماركيز في السّنة الّتي إجتزتُ فيها الباكالوريا … و لقد مثّلت تلك الرّواية حدثا أساسيّا في حياتي العاطفيّة فقد فتحت في روحي نوافذا أخرى على عالم النّساء .. و مكّنتني من تأويلات جديدة للمغامرة القصوى الّتي نسمّيها : "الحبّ ".
لقد مثّل لي بطل الرواية " فلورينتينو أريثا " نموذجا حقيقيّا للمناضل العاطفي بالرّغم من جميع الإخلالات الأخلاقية الّتي إرتكبها في طريقه إلى تحرير حبيبته من سجون زواجها الكلاسيكي الّذي بدا في القصّة و كأنّه يقوم على أنقاض حبّ نقيّ و لا يُضاهى .
ملخّص الحدث الروائي : شاب في العشرين يحبّ فتاة في السادس عشر على ما أذكر فقد قرأتها مرارا و تكرارا لكن منذ أكثر من عشر سنوات .. و يعيشان حبّا نقيّا و عميقا يذكّرني مثلا بحبّ ستيفن وماجدولين في رواية الحبّ الشّهيرة تلك " ماجدولين " .. ثمّ يحدث تحوّل درامي بأن يفرض أب الطفلة على آبنته الزواج برجل مرموق وذا مكانة إجتماعية وهو الطبيب خوفينال أوربينو .. الأب كان يبحث عن الصّعود الإجتماعي وتملّق الطبقة البورجوازية الصاعدة .. الطبيب كان معجبا بتلك الفتاة الصغيرة ويريد أن يجمّل بها حياته الإجتماعية .. فيرمينا داثا كانت مثالا للفتاة الصغيرة المسكينة واليتيمة والّتي إستسلمت للواقع تماما بعد مقاومة يائسة .. وصاحبنا فلورينتينو كان ساعتها شابا روحانيّا .. بائسا و تائها ..لا يعرف من الدّنيا إلّا أن يحبّ فيرمينا أكثر فأكثر.
تبدو القصّة بسيطة جدا … هههه .. ولكن عبقريّة ماركيز تقدّم تلك الأحداث بأسلوب ساحر لا يُقاوَم .. و لقد قرأت سواء في الكتابات حول تلك الرواية أو حتّى في مذكّرات ماركيز نفسه أنّ تلك القصّة مستوحاة من حكاية الحبّ الّتي جمعت أبواه أو جدّه بجدّته .. ( نسيت تحديدا..)
المهمّ أنّ فلورينتينو أريثا قد شارف على الجنون .. ولكنّه بينما كانت سهرات زواج حبيبته تُقامُ في الطرف الآخر للمدينة .. كان هو وحيدا وضائعا لكن ثابتا ومثابرا حين قرّر قراره الأكثر تاريخيّة أنّه سيعيش طويلا إلى ما بعد وفاة زوجها .. وأنّه سيشتري بيتا لزواجه من حبيبته حين يتولّى أمرها في ذاك الزّمان البعيد والمجهول ..وأنّه سيعمل ليلا ونهارا حتّى يصل إلى أعلى المراتب الإقتصادية والإجتماعيّة .. وأنّه سيلبس الأسود حدادا طيلة حياته تعبيرا عن خيبته العاطفيّة .. وأنّه قد إشترى منذ تلك الأيّام بدلة بيضاء أنيقة سيلبسها فقط حين تدقّ نواقيس الكنائس معلنةً وفاة خصمه العاطفيّ بعد أكثر من نصف قرن .
وهكذا كان فعلا .. فقد حقّق كل أهدافه كما خطّط لها وعاش أكثر من خمسين عاما يفكّر كلّ لحظة في تلك الحياة الّتي ستكون حين يستلم مصير فيرمينا داثا بين يديه .. خمسين عاما لم يرى فيها حبيبته سوى أربع مرّات عابرات على ما أذكر .. ولكنّه خلال ذاك الزمن كان قد تعرّف وعاشر عشرات النّساء اللاتي يكشف لنا ماركيز بأسلوبه الخرافي مآسيهنّ ودروبهنّ وحكايات كلّ واحدة منهنّ .
لقد شعرت طيلة الرواية أنّ فلورينتينو لم يكن يبحث فيهنّ عن الحبّ ولا حتّى عن المتعة .. بل كان يبحث عن فيرمينا في كل ّ قلوب النساء وأجسادهنّ : لازلت أذكر جيّدا سكرتيرته حين صار رجلا ثريّا و أظنّ إسمها " ليونا كاسياني " .. كم كانت رائعة وجميلة وعميقة وذات أحزان دفينة نتيجة خيبتها العاطفيّة .. وأذكر عميقا وبكلّ ألم تلك الأرملة الكبيرة في العمر وكان فلورينتينو يسمّيها "أرملة الربّ" مثلما نحن نقول مثلا "مساكين الله ..أو أبناء الله" بمعنى رمزي ..كان يعني ربّما "أرملة الدّهر" .. وهي الّتي كان يذهب لبيتها عند الثالثة فجرا لا من أجل المتعة .. بل من أجل البكاء .. لقد مزّقت تلك الصّورة قلبي إربا إربا : كان يتجوّل في آخر الليل وحيدا في الشوارع ودموعه تدور في عيناه من أجل حبّ مقهور مضى عليه ثلاثون عاما ثم يقرّر أنّه محتاج لآمرأة يبكي معها وكان لا توجد من نساء العالم من إمرأة يمكنها أن تفهم في تلك الساعة المتأخّرة أحزانا كأحزان صاحبنا غير "أرملة الدّهر" .. فطرق بابها فعرفت فورا دون صوت أنّه فلورينتينو جاء عند الفجر فقط ليبكي عندها .. يبكي دون كلام حبّا يعذّبه منذ أكثر من ربع قرن …
الصواب أن لا أقول : قرأتُ تلك الرواية بل أنّي عشتُ تلك الحكاية .. وأظنّ أنّ سمتَ فلورينتينو كعاشق خيالي وثائر عاطفي لا يلين ووفيّ مزمن لروحانيّة الحبّ وبكّاءٌ على حافّة الجنون .. كلّ ذلك قد كان أيضا من صفاتي العاطفيّة الّتي توطّدت في روحي بفضل تلك الرواية .. بل وجدت فيها تبريرا حتّى لخيباتي العاطفيّة القديمة بوصفي كما فلورينتينو : عاشقا خارج مواصفات العصر .
حين مات زوج فرمينا .. وحين قرعت أجراس الكنيسة .. أدرك فلورينتينو فورا وبحدسه الأسطوري أنّ تلك الأجراس بالذّات وفي ذاك اليوم بالذات لا يمكنها أن تكون إلّا الأجراس الّتي إنتظر قرعها لأكثر من نصف قرن .. وكان في عربةٍ يجرّها حصان فأمر السّائق فورا بالعودة إلى البيت .. وعلى مشارف الثمانين من العمر إرتدى لباسه الأبيض الانيق الّذي خبّأه منذ ذيّاك الزّمان وآنتظر أن تفرغ بيت فيرمينا داثا من جموع المُعَزِّين ثمّ تقدّم نحوها ليقول بعد العزاء " فيرمينا قد جئتُ أجدّد الحبّ القديم " فقالت " ألا ترى أننا قد صرنا عجوزين وأنّ رائحتنا قد صارت كريهة " .. المهمّ أنّها طردته بعنف لأنّه إنتهك حرمة زوجها الميّت و تقاليد العزاء .. غير أنّها وفي ليلتها الأولى كأرملة .. نامت على سرير واسع بجانب روح زوجها الميّت .. نامت باكية وملتاعة .. ومفكّرة بذاك العاشق المزمن أكثر من تفكيرها بزوجها الميّت
.
بفففففففففففف … تعبت … ما أعظم تلك الرواية و ما أروع جابرييل غارسيا ماركيز … و كم أستحقّ أن تلقي القبض عليّ عصابة متوحّشة و تعدمني رميا بالرّصاص عسى أن أرتاح من هذه الأعماق وهذه الروحانيّة الرّهيبة الّتي عانيت منها طويلا جدا عاطفيّا وعقليّا وصحيّا.