
لم تكن أنظمة الحكم قبل الثورة جمهورية بالمعنى الدقيق للكلمة ما يعني فصلا واضحا بين السلط وتداولا سلميا على إدارتها.كان نظام الحكم يحتكر كل السلط ويحكم دون سقف زمني معلوم. ولقد أتاحت الثورة فرصة التاسيس لنظام جديد قوامه الديمقراطية وفصل السلطات الثلاث وهيئات دستورية مستقلة.
وأمام مناخ الأزمة الانتقالي يميل البعض نخبا وعواما إلى تحميل الأزمة إلى طبيعة الدستور والنظام السياسي. ألم يقل بن عاشور أن دستور 2014 هو أكبر من تونس يناسب دولة مثل الصين الشعبية أو الولايات المتحدة لكنه لا يناسب بلدا صغيرا كهذا الأخضر.
ويعتبر البعض الآخر أن المشكل هو في النظام الانتخابي وليس في النظام السياسي وان كان هذا الرأي يلقى إجماعا أكثر فإن التناقض يبلغ مداه في التفاصيل بين من يريد تجميع السلطة بيد عدد محدود من الأحزاب السياسية الوازنة والقادرة على الحكم وتحمل نتائجه وبين من يحرص على تشريك الأحزاب الصغيرة ومنع التغول.
لكن يبدو عمليا أن المنظومة الدستورية الجديدة قد أثبتت قدرا من الفاعلية والصمود أمام إعادة إنتاج احتكار السلط والتغول. لكن مالم تنجح هذه المنظومة في تطويقه هو اختراق قوى الضغط المالية والجهوية ولا أقول المافيا للأحزاب والهيئات والسلطات بما فيها السلطة الرابعة التي أصبحت خامسة بعد اعتبار الحكم المحلي سلطة وبالدستور.
وفي انتظار استقرار المنظومة الحزبية التي لم يهدأ التكتونيك السياسي في إعادة تشكيلها وهي الركيزة الشرعية والدستورية الديمقراطية الوحيدة للحكم فإننا نشهد تحولا ظرفيا من احتكار السلط إلى الفصل ثم التذرية. ومن المفارقة القول أن دعامة استمرار الدولة عمليا هي الدولة العميقة وهي التي تعودت على السياسة المعتادة وإعادة إنتاج نفس نمط الإدارة. نقس الطبقة السياسية التي تسكن هذه الدولة العميقة لا تزال تبحث لنفسها عن واجهة حزبية وتشابهت عليها الأحزاب.
لكن المجتمع اكتسب مناعة ضد الفوضى العارمة وما نراه من احتجاجات وعنف هنا أو هناك عدا آفة الإرهاب ما هو إلا ردة فعل على دولة فقدت ملامحها ما بين القبضة الحديدية الضامنة لقدر من الانضباط والميوعة السلطوية التي تجعل الناس تخشى على ارزاقها ومصالحها.
ما يجري صراع ارادات ولكن سقفه إلى حد الآن نفس المنظومة الدستورية وستستقر الأمور على هذا النحو. البدائل تتشكل والجميع يبحث عن توازن ما .