اثارت اللافتة الاشهارية لجمعية قطر الخيرية حول جمع التبرعات لسكان الشمال الغربي التونسي استياءا كبيرا ومهما كانت النوايا فقد اساءت الجمعية لتونس بتسويق صورة بؤسوية مهينة. وحسنا فعلت الجمعية بالاعتذار و السحب الفوري لهذه اللافتة وحسنا فعل الضمير اليقظ الذي يرفض المعونة الخارجية المغلفة بالاساءة والتسويق السيء للقضايا العادلة. لكن المناسبة ايقظت مشكلا لا ينفع معه التعفف الكاذب ولا اللامبالاة.
هناك مشكل حقيقي في الموسم الشتوي لشرائح ريفية واسعة تسكن الغابات وعلى اطرافها وفي المناطق الجبلية و المنعزلة وهي مناطق تغافلت عنها الدولة لعقود في انتظار رحيل سكانها وكانت تجود علها الشعب الدستورية مما يرد من مساعدات خارجية حسب مستوى ولاء سكانها للحزب/ الدولة.
عندما انسحبت الدولة ابتدعت صندوق التضامن 26-26 ليغطي انسحابها ولكنه كان يغتني من معاناة الفقراء ولا يغنيهم وتحول الى ضريبة مقنعة باسم الفقراء. وعندما انغلقت ابواب التمويل الاجنبي للمشاريع الكبرى التنموية الوهمية ظل العنوان التنموي الاجتماعي و فك العزلة عن المناطق النائية والاحاطة بالعائلات المعوزة هو حجة صيد المعونة الخارجية (ولازال).
بعيد الثورة تكشفت حقائق كثيرة عن حجم الفقر و جغرافيته وظهرت سياحة تضامنية لا تخل من تعاطف وتكاذب جماعي تمثلت في قوافل التضامن و رحلات جماعية بعنوان تضامني وصلت حد المبالغة و استفزت ردات فعل سلبية من لدن الاهالي عبرت عن نفسها في حرق مساعدات الفريب و تكسير حافلات المساعدة . فكان من البعض ان نظم رحلات تحمل الورود فقط مثل تلك الرحلة التي نظمها الفنان الطرودي.
خفتت هبة السياحة التضامنية بعيد الانتخابات الاولى والثانية عندما افصحت نتائج الانتخابات عن هوى محافظ لا يروق "للعائلة التقديمة" ولا حتى لباقي الاحزاب والنخب. فعوض التشفي والحقرة التعاطف السابق الذي لم يعمر طويلا وبقيت الحاجة السياحية للخضرة والنزهة.
ولقد زالت قيود كثيرة عن تدخل المنظمات غير الحكومية الدولية و عن تكوين الجمعيات و قد اتخذت هذه الاخيرة عناوينا كثيرة لكنها في الاغلب عناوين خيرية و تنموية. وتراوحت مصادر التمويل بين اوروبية و خليجية .
ولئن خفت دور الجمعيات الخيرية بحجة التضييق على مصادر الارهاب (عن حق وباطل) فان غالبية الجمعيات التنموية كانت تصرف الاموال التي تاتيها في تنظيم الملتقيات وحلقات التكوين في النزل ولم تمارس العمل الميداني الا نادرا. ورغم حسن النوايا فان عملا كبيرا لازال ينتظر لتجاوز عقلية المساعدة والانتظارية التواكلية ولمساعدة الفقراء على مساعدة انفسهم . كما ان انسحابا مبكرا للدولة لا شيء يبرره في الوقت الحاضر.
لاشك ان الرهانات عميقة ومعقدة ولايمكن انكار دور المساعدة في تخفيف البؤس خاصة في المواسم المناخية القاسية لكن مجهودا تنمويا لايزال قاصرا دون مستوى الاندماج الاجتماعي و المجالي المطلوب والمقبول في حده الادنى ودون تحرير الطاقات الانتاجية. وبعيد الثورة كان كثير يقول : "كنا نعرف ان هناك فقرا لكننا لم نكن نعرف انه بهذا الحجم".
لكن الوعي بالفقر لم يتطور الى تضامن وطني ممنهج ينقل المساعدة الى التنمية وينقل الصراع على السلطة الى التنافس الايجابي لخدمة الوطن وتحرير المبادرة و الاستثمار ودمج الوطن في الوطن.