تونس تستحق خيارا جديدا

Photo

منذ اندلاع الثورة الأولى أو ما سمي كذلك ولم تنجح تونس في رسم مسار ديمقراطية حقيقية ناجحة بل فشلت في إنجاز هذه الديمقراطية الناشئة والوليدة رغم نجاحها بداية في رسم مسار مختلف نوعيا عن ما حصل في مصر وليبيا واليمن وسوريا.

انتقلت الثورة المصرية إلى حمام دم انتهى بصعود العسكر إلى السلطة ورفض التعامل مع الإسلاميين أو الإخوان. في ليبيا تحولت تلك الثورة المبرمجة فرنسيا والتي كانت صنيعة ساركوزي وبرنار هنري ليفي وتكتيكات المخابرات الى تقاتل وشبه حرب أهلية تخفت وتعود إلى السطح. في اليمن تحولت إلى حرب أهلية وبتدخل إقليمي خليجي وايراني أصبح صراعا طائفيا. بينما في سوريا أصبحت مسرحا للدواعش واخواتها مع تمسك نظام بشار بالسلطة ودفاعه عن وجود واستمرار دولة ممانعة في صف محور ايراني سوري.

أما في تونس فلم يقع كل هذا لم ترق دماء وكان انتقالا سلسا للسلطة رغم سقوط عدد من الشهداء ولكن يبقى ضمن الإطار المعقول مقارنة بشبيهاتها. بدأ وضع دستور جديد للبلاد ثم بعض المؤسسات اللازمة للانتقال الديمقراطي ووقعت الانتخابات الأولى وكانت ناجحة نجاحا كبيرا. ولكن سرعان ما ابتدأت ارهاصات فشل التحول الديمقراطى وذلك لأسباب عديدة:

1- عودة النظام القديم الذي طرد من الباب ليعود من النافذة في شكل حزب جديد أسمى نفسه نداء تونس محاولا البروز بمظهر وطني منقذ للبلاد من الاسلاميين أو حزب النهضة. لم تنجح الثورة في كنس ماكينة الدولة العميقة المتجذرة في حكم البلاد منذ الاستقلال.

فالزعيم بورقيبة رغم وطنيته المعروفة وثقافته العالية وحرصه على احداث نمط تنموي جديد وحداثي في كل المنطقة إلا أنه لم يؤسس تقاليدا ديمقراطية بل استأثر بالحكم لنفسه ولكنه قام بتحديث الدولة والإدارة والتعليم والصحة وتحرير المراة…

كان بورقيبة يرفض تعدد الأحزاب وبنى حزبه الواحد وأسماه الحزب الاشتراكي الدستوري. كان الزعيم بورقيبة ذو شخصية كارزماتية ترفض المنافسة ولا تؤمن بالديمقراطية أو المشاركة أو التناوب على الحكم. هذا التمشي منذ 1956 تاريخ الاستقلال من المستعمر الفرنسي أجهض المشروع الديمقراطي وحرم تونس من إمكانية الاستقلال الحقيقي وان تفاوض المستعمر من منطق الندية فتحمي ثرواتها من الاستنزاف الأجنبي الماكر والذي ولئن تنازل عن البلاد بعد كر وفر إلى آخر معارك الجلاء عن بنزرت إلا أنه ظل متشبثا بحق فرضه فرضا وهو استنزاف ثرواتنا من ملح وفسفاط ومعادن وحديد وفولاذ وربما بترول….كان بورقيبة ضمن موازين القوى حينئذ غير قادر على المفاوضة الندية فأقصى طموحه كان الاستقلال السياسي وبناء الدولة التونسية مع تنازلات عديدة لفرنسا..

أما بن علي فاستمر على نهج بورقيبة في تسيير الدولة مع فتح الباب أمام تعددية حزبية مزيفة لان الأحزاب التي وقع السماح لها بالظهور كانت أحزابا كرتونية ضعيفة لا وجود شعبي لها وانما هي أبواق للحداثة تمرر نفس المشروع ولعل اليسار انخرط في نفس المنظومة والأحزاب وقع اختراقها من الداخل وتمويلها من النظام لتلمع صورته ووقع استدراج بعض وجوه اليسار وتحويلهم الى شبه مخبرين في تلك الأحزاب.

2- الدثار الأيديولوجي كان سببا مقيتا في إفشال الانتقال الديموقراطي لان الإسلاميين واليسار شقين متناقضين تمام التناقض أو هذا ما يحلوا لهما الايمان به والعمل على تأبيده. فعندما نجحت حركة النهضة ذات التوجه الإسلامي في انتخابات المجلس التأسيسي ودخلت البرلمان عملت قوى اليسار على إفشال العملية ثم الذي زاد الطين بلة عندما حكم الإسلاميون خلف د المنصف المرزوقي في 2013 تمترس اليسار وراء الدولة العميقة وأجج الشارع بالتحركات المطالبة بإسقاط الحكومة وتحالف مع النظام القديم ضد التحول الديمقراطى.

نفس الشيء قامت به حركة النهضة عندما أدارت ظهرها لحليفها الاول المنصف المرزوقي والذي ينتمي العائلة الديمقراطية الوسطية واستبدلته بالباجي قائد السبسي عراب النظام القديم والسياسي المخضرم الذي خبر دواليب الدولة منذ عهدها الاول. ولعبت الحركة بين الخيال لتكريس ديمومتها خوفا من الاستئصال خاصة بعد السيناريو المصري وخلط الاوراق من جديد.

تناولت الحركة عن الكثير من ثوابتها وأصبحت نسخة ركيكة من اسلام سياسي مخلوط بالكثير من الانتهازية وازدواجية الخطاب والقفز بين المحطات..

3-غياب مشروع تنموي: برز واضحا للعيان أن أغلب الأحزاب الكبرى من نداء تونس وجبهة شعبية ضمت أطياف اليسار والنهضة كلها فاقدة لمشروع تنموي يدفع نحو التشغيل والقضاء على البطالة واحداث تغيير اقتصادي شامل. في ظل غياب هذا المشروع تواصل استنزاف الدولة وظهور اللوبيات الكبرى والمافيات في ظل ضعف الدولة وصناعة الإرهاب مدفوع الاجر.

حكم نداء تونس منذ 2014 متلحفا برداء النهضة بعد التوافق المزيف الذي وقع بين الباجي والغنوشي أو ما سمي بتوافق الشيخين الذي وان انقذ البلاد من حرب أهلية واسس سلما عوض الحرب إلا أنه استنزف قدرات الدولة وهيبتها وسقطت كل المؤشرات الاقتصادية نحو أسوأ قيمة من ارتفاع غير مسبوق للأسعار وضعف القدرة الشرائية للمواطن وسقوط الدينار وارتفاع سعر العملة الصعبة وضعف احتياطي البنك المركزي من العملة الصعبة وانخرام ميزان الدفوعات وارتفاع المديونية والتضخم المالي مما أدى إلى إفلاس الكثير من الشركات الوطنية والتي أصبحت تباع نحو الخوصصة والرأسمال الأجنبي…

4- الديكتاتورية النقابية : بيد أن اتحاد الشغل والذي له تاريخ نضالي ضد الاستعمار استفاق في ظل الفوضى العارمة وضعف الدولة وسيطرة اللوبيات واراد أن يكون له صوت يسمع فتدخل في الشقيقة والرقيقة وخلط العمل النقابي بالعمل السياسي وتدخل في رسم التوافقات السياسية خاصة بعد تدخله في حسم الصراع على السلطة بمناسبة الحوار الرباعي ورغم أنه له تدخلات وطنية إلا أنه لم يحافظ على مسافة الامان مع السياسة وأصبح مقلقا وتحركاته منهكة للاقتصاد في فترة حساسة فبمطلبيته النشطة والتي لا ترحم دفع الدولة نحو المديونية بصورة غير مباشرة رغم أنه ينادي بمعارضة سياسات النقد الدولي…

5- الدور السلبي للإعلام والذي اصبحت فيها القنوات التلفزيونية التي تكاثرت وتوالدت كالفوقاعات كالحوانيت التي تبث الشائعات المغرضة والتي تبيع الرداءة والكذب والسب والتزييف واذلال الرجال الصادقين وشهرة المزيفين والمتحذلقين و"المناظر المقلبة"….وأكثرها مدفوعة الأجر لكثير من الفاعلين الاقتصاديين والراسماليين الكبار. أصبح الإعلام يدعم طرفا ضد آخر ولا يفكر في مصلحة البلاد ولا العباد وانما مصلحة أطراف بعينها والضحك على الذقون وبناء راي عام شعبي مزيف تجاه قضايا بعينها يقع التخطيط لها بدهاء وبثها وتكوين راي عام وصناعة مواقف ضد أطراف من أجل عملية فرز في المجتمع..

6- تدخل أطراف إقليمية مثل قطر والامارات وتركيا وفرنسا وربما إسرائيل على الخط من أجل دعم بعض الأطراف ضد البعض الآخر فلا يخفى على أحد دعم قطر وتركيا اردوغان للنهضة ودعم فرنسا والإمارات ودول أخرى للنداء ومن ورائه اليسار لحشده ضد النهضة…وراهنت بعض هذه الأطراف الإقليمية على اجهاض المسار الديمقراطي كي لا يصبح نموذجا يحتذى..

7- جر البلاد إلى صراع كلامي والى التجاذبات السياسية بعيدا عن جواهر الأمور وبعيدا عن المنوال التنموي فأصبحت القضايا المطروحة ابعد ما يكون عن المطالب الأساسية للشعب وانما قضايا تؤجج الاحتقان الشعبي وخلق الفتنة مثل مواضيع المثلية الجنسية والأسلوب في الميراث بين المرأة والرجل ومحاولة استفزاز الشعور الديني عند الشعب ….

كل هذا في ظل انخرام الاقتصاد وعدم الإسراع بالإصلاحات اللازمة على المستوى الجبائي وعلى مستوى مقاومة الفساد والتهريب والاقتصاد الموازي والمؤسسات العمومية الخ
لم توجد حركة خارج الأحزاب الثلاثة تكون قوية وذات وجود فالشعب لم يتعود الديمقراطية ولم يفقهها والسياسيون لم يقوموا بأي مجهود لتأجير الشعب داخل الأحزاب بل سارعوا للزعماتية والبروز في الشاشات ولم يتصلوا بالجماهير لتأسيس أحزاب قوية. ولذلك فشل المشروع الديمقراطي اووهو في طريقه للفشل بعد فشل السياسيين في تأسيس عمل سياسي محترم يراه الشعب الذي بالعكس لم يرى غير صراعاتهم وتهافتهم على المصالح فكرههم وكره رائحتهم وكفر بهم.

لابد اليوم لإنقاذ تونس أن تعمل بعض القوى على إعادة الثقة في السياسة والسياسيين من خلال تأسيس أحزاب جديدة مختلفة تماما على الحوانيت السياسية المألوفة فالطعام الذي تكثر من أكله تمله.

والشعب قد مل الزيف والكذب ولا بد لإعادة ثقته في السياسة تغيير منهج العمل السياسي وإنتاج سياسيين جدد يتسمون بالخطاب الدقيق الصريح والصادق وعدم اللعب على الحبال وبناء رصيد ثقة عند الجماهير وذلك بتقديم مشاريع واضحة واقعية قصيرة وطويلة الأمد لحل المشاكل العالقة وانجاز بعض الإصلاحات الضرورية والعاجلة وإرجاع العمل السياسي إلى دوره الحقيقي بعيدا عن الأحزاب التقليدية من أجل حركة سياسية براجماتية ذات امتداد شعبي تكون الخيار الجديد لتونس وتنافس تلك الأحزاب الفاسدة وتجمع حولها الأغلبية الصامتة.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات