حينما نتأمل واقع علاقتنا كتونسيين مع فرنسا البلد الذي احتلنا وانتهكنا وقتل أهلنا وحارب عقيدتنا ولازال واستبعد لغتنا من الفعل ولازال، واستلب ثرواتنا و لازال، فإنه من اليسير تقرير أن الأمور لم تمض بالشكل الذي كان يفترض أن يتم بين بلد سوي والقوة التي احتلته، ولكن ذلك حدث ودخل الوجود، فثبت إذن أننا لسنا أسوياء في تعاملنا مع من احتلنا.
الوضع السوي أن تنفر ممن غلبك وأهانك بالقتل وافتك ثرواتك واحتقر دينك واستبعد لغتك، لكننا بتونس، أقبلنا وازددنا إقبالا على فرنسا، واتخذناها ولازلنا نتخذها قدوة.
الشعوب السوية، تفتخر بهويتها بقدر إهانة المحتل لها وتشرق إن غرب هو وتغرب إن شرق هو في مواقفه منها(1)، لكننا بتونس، نكره لغتنا كما تكرهها فرنسا أو نزيد ونستبعدها من ميادين الفعل كما تستبعدها فرنسا، ونحتقر ديننا مثلما تحتقره فرنسا أو نزيد ونختزله في طقوس دورية كما تريد فرنسا أن نفعل مثل طقوس المسيحيين مع كنائسهم أو عبدة البقر مع أبقارهم، ونضعه موضع الهوان كما تقرر فرنسا ذلك، ونصف دين السماء بالإرهاب وأهله بالإرهابيين مثلما تفعل فرنسا ذلك، ونبتئس لابتئاس فرنسا منه ونغضب لغضبتها في كل ذلك.
الشعوب السوية، تفتخر برموزها التاريخية ممن تصدى للمحتل، ولكننا بتونس لا نذكر قدواتنا الذين حاربوا فرنسا منذ دخولها بلادنا حتى خروجها، بل أساسا نحن لا نكاد نعرف أسيادنا هؤلاء ولا نتقن تاريخهم ولا نذكر معاركهم المشرفة، نحن أساسا نجهل تاريخنا، أو بدقة لا نعرف من التاريخ إلا ذلك الذي لا يؤذي فرنسا، وأما من تسرب من غربالهم، فإنهم يسفهونهم ويصمونهم بقطاع الطرق (الفلاقة).
الشعوب السوية، تكون ثقافتها انعكاسا لهويتها ومسيرتها في الحياة وتط*لعاتها للمستقبل، فتعادي تلك الثقافة ما يعاديه الناس وتنصر ما ينصرونه، وتحتفي برموزهم التاريخية أولئك القدوات المضيئة، لكننا بتونس، أظلتنا وتمادت ثقافة تعادي ديننا فتشيع الفاحشة وتروج للانحرافات وتعلي من قدوات السوء، ثم تقزم حضارتنا وتشوه رموزها، وتفتري عليهم، وهي ثقافة لا تكاد تذكرنا بتاريخنا المشرف حينما تصدينا لفرنسا وتتجاهله، بحيث وقر في صدور أجيال كاملة منا نحن التونسيين أن أجدادنا قطعان من الرعاديد استفعلت فيهم فرنسا طيلة ما يقرب من القرن ولم يقابلوا ذلك إلا بالإذعان.
ثم إن الوضع السوي أنك تستعمل لغتك العربية حينما تخاطب من يليك من ناسك في المواضيع التي تخصهم، لكننا نجد من بيننا من يستعمل لغة فرنسا للحديث معنا في أمور تخصنا، وهو يفعل ذلك مطمئنا طمأنينة تقرب للتي لدى السذج من الصبية، وهو إن راجعته، لم يفهم اعتراضك وأخذته العزة بالموقف واستغرب سؤالك، فنحن إذن إزاء حالات مؤسفة من الانبتات والاندماج السلبي مع فعل الاقتلاع الذهني، لكن الخطر أن أمثال هؤلاء هم من يقوم بتشكيل تصورات ومفاهيم التونسيين بوسائل الإعلام والتعليم والتثقيف.
بإمكاني أن أواصل ذكر المزيد من المواقف غير السوية في تونس، بين ما يفترض أن يكون وبين ما هو حاصل واقعا، وهذه التقابلات تدور حول عنصرين: أنها أمور من صنف اللاماديات أي من مجال الأفكار والتصورات التي تنتج المواقف، ثم ثانيا أنها تتعلق بفرنسا من حيث أنها تنتهي إليها بالإضافة أو الانتساب اللامباشر من خلال التونسيين المدافعين عن فرنسا والذين هم عينات لضحايا عمليات التوجيه الذهني الفرنسي، ووجودهم دليل (بطريقة العكس) عما نحن بصدده، فيصيح أمثال هؤلاء دليلا عن المشكل الذي نتناوله، لأن الوضع السوي لا تجد فيه ضحية تدافع عن المحتل، وحينما يوجد ذلك، فهذا يعني أننا في وضع غير سوي بشكل متفاقم، حيث شرائح كبيرة من التونسيين تمثل فرنسا وتدافع عنها وتروج لمصالحها أكثر مما تفعل مع مصالح تونس.
نحن إذن نتعامل مع أمر سابق عن اتخاذ المواقف، هو الذي يوجه الرأي الخاص ثم الرأي العام، ويشكل الأذهان ويصيغ المفاهيم، نحن في مستوى المفاهيم و الأفكار المنتجة للمواقف المادية.
المستوى اللامادي هو سبب ومنشأ المستوى المادي
يشكك البعض في تناول مستوى اللاماديات ويراه ترفا فكريا وأنه تناول لا يغير حياتنا، وهو يقصد ضمنيا الحياة المادية ويختزل الوجود بما فيه الوجود البشري في البعد المادي.
وهؤلاء يشرحون مبلغهم من الفهم فيقولون أن ما يؤثر فينا ونؤثر فيه هو المجال المادي، فالأوضاع الإقتصادية من الماديات، والاتفاقيات التي تربطنا مع فرنسا والثروات من ملح وبترول ماديات وهي إن أرجعت لنا ستؤثر في حياتنا المادية، وبعض هؤلاء يمضي أبعد فيقول إن تدخل فرنسا في أمورنا لا حرج فيه لأنها دولة قوية، و أن استعمال لغتها إنما سببه أن لغتنا متخلفة لا تصلح للعلوم، وغيره من الكلام الذي يعتقد هؤلاء أنه حجج.
كل هذا الفهم إنما هو مواقف تدور حول فكر وتصورات، وهو يستعمل حين التعامل مع واقع مادي، أي أن الواقع المادي الذي هو موضوع النقاش قبولا ورفضا، أمر متأخر في التناول والوجود عن الفكرة والرأي، و أن الفكرة سابقة في التناول والوجود والتأثير عن موضوع النقاش أي سابقة عن المادة.
فثبت أن الفكرة أي المستوى اللامادي هو الذي يؤثر على المستوى المادي رفضا أو قبولا. هذا لا يعني أن الفكرة خلقت من دون ترتيبات مادية بالواقع، ولكن ما يهمنا أن شروط إنتاج واقع مادي للقبول بمفاهيم، الهدف منه في النهاية عملية توجيه ذهني لإنتاج قناعات (تتعلق مثلا بالقبول بفرنسا وهيمنتها واستحالة التخلص منها ومن لغتها وثقافتها)، وهذه أمور لا مادية.
ولما كان السابق هو المنتج والمؤثر في ماهو لاحق، فإن النظر فيه لا يقل أهمية عن تناول المستوى المادي، وقد يكون أكثر أهيمة، لذلك نقول أن مستوى اللاماديات يجب أن يتناول في كل أبعاده لكي نعالج مستوى الماديات أي الواقع.
من خلال مثل إختزالي حول كيف يؤثر الربط (2) اللامادي في المستوى المادي، خذ اللغة، يمكن القول، نعم، اللغة الفرنسية والقبول بفكرة فرنسا القدوة، هما سبب تخلفنا الحضاري وتفقير التونسيين، لأن عدم إتقاننا لغات أخرى وخاصة الإنقليزية يجعل مجال تحركنا الاقتصادي لا يغادر بضع بلدان تستعمل الفرنسية، كما أن تعلقنا الذهني بفرنسا يجعلنا ننظر للعالم من خلال نافذة فرنسا أولا، فلا نستورد إلا بعد أن نعطي حق فرنسا في نهبنا أولا، لذلك تجد نسبة كبيرة من وارداتنا فرنسية رغم تواضع المنتوجات الفرنسية، وإن صدرنا لكأنه لا يوجد بالعالم إلا فرنسا أو ما جاورها، فضلا على عدم مراجعة إتفاقيات النهب الإقتصادي الفرنسي التي صيغت بخلفية دونية ولم تتم مراجعتها.
وهذه مشاكل ظاهرها قانوني تقني ولكن أصلها وسبب تواصلها، نفسي ذهني، سببه عقد النقص التي تكبلنا وسببه الانغلاق والتقوقع الذي حدث لنا بحكم ضيق الافق الذي عملت ادوات الربط اللامادي مع فرنسا على خلقه وتقويته، فأصبحنا منعزلين، نخسر ماديا من وراء بقاءنا في فلك فرنسا ولغتها وثقافتها.
ضرورة تناول مستوى الربط اللامادي كشرط لتغيير الواقع
لا يمكن تغيير واقع الموجودات المادية المبنية على تصورات معينة نسبة لفرنسا (بعض عيناته ماذكرته بأول المقال)، إلا بتفكيك الدعامات المفاهيمية التي أنتجته أولا، لأن واقعنا البائس نسبة لفرنسا يمثل بناء صلبا مبني على مجموعة مفاهيم تم اقناع الناس بها، لذلك قبلها التونسيون وسلموا بها، رغم أنها تساهم في تفقيرهم وتكريس تخلفهم المادي والحضاري عموما.
بالتالي، لايمكن أن نغير واقع علاقتنا غير السوية مع فرنسا إلا باعادة النظر في مستوى أدوات الربط اللامادي الذي أنتج ذلك الواقع ومهد له القبول النظري.
محاولات التناول النقدي المباشر للمستوى المادي لواقعنا، سيكون عملا غير فعال، لأنه مبني على فرضية غير سليمة تقول أن ذلك الواقع المادي لا يرتكز على بناء مفاهيمي سابق ساهم في إنتاجه وإقناع الناس به، وما لم نتناول المستوى اللامادي أي المفاهيم والتصورات المنشئىة لذلك الواقع، فستكون محاولات إصلاحه قاصرة.
بمعنى آخر، فإن المساعي التي تحصر مشاكلنا مع فرنسا في مراجعة الاتفاقيات التي تتناول الجلاء والاستقلال والثروات الطبيعية فقط، كلها عمليات قاصرة، لأنها مساعي تتحرك في مجال النتائج ولا تتحرك في مجال الاسباب.
هوامش
(1) الافتخار بالهوية، أمر مستقل عن محتوى تلك الهوية، أي حتى لو كنت تعبد فأرا فإنه يلزمك الافتخار بتاريخ أهلك عابدي الفئران، لأن أهمية ذلك الفخر أمر آخر غير موافقتك لعبادتهم من عدمها، وإنما القصد منه أنك كيان ممتد في الزمن مستقل عن عدوك، وهذا الشعور يمثل قوة تعصمك من التفكك النفسي أمام العدو وهي شرط الصمود المادي.
(2) في مجموعة مقالاتنا التي تتناول العلاقات اللامادية مع فرنسا، نستعمل اللفظين: الربط (رابط / روابط) والإرتباط (الإرتباطات)، بمدلوين مختلفين ولكنهما قريبان، حيث بالأول معنى وجود الإرادة في فعل الربط أي علاقة واعية، بينما الإرتباط، يؤشر على غياب الإرادة في إنشاء عملية الربط، وما يهم هو وجود العلاقة.