أبدأ بمسلمات (1) كمدخل للموضوع وهي أولا أن انقلاب قيس سعيد يمثل مرحلة في التعارك مع الثورة المضادة، ويعد نموذجا واضحا لغلبة المنظومة القديمة خصومها من بعد أن كان الصراع معها لسنوات لا يكاد يجاوز التعادل إلا قليلا، فقيس بهذا المعنى أحد مؤثري الثورة المضادة في مستواها الظاهر القابل للبحث، فتناولنا الانقلاب فرع من تناولنا الثورة المضادة، والحديث في هذه الأخيرة حديث عن الانقلاب.
ثانيا أن التعامل مع الثورة المضادة كان لدى العديد من فواعل الثورة وزعماء تشكيلاتها الكبرى محكوما باعتبارات أخلاقية، و أهم مؤشرات ذلك ظلال التسامح والعفو التي طبعت مجمل مواقفهم مع خصومهم.
ثالثا أن التعامل الأخلاقي مع الثورة المضادة كان المدخل التبريري للانحراف بالأعمال اللازم القيام بها في مسار الثورة، وعليه فإن مستوى التناول الأخلاقي كان باب الانحرافات والتضييع والتفريط.
لفهم ذلك نبدأ بعينات من التفريط الظاهر في التعامل مع المنظومة القديمة وأدواتها :
لماذا وقع التعامل بمنطق اذهبوا فأنتم الطلقاء مع منتسبي منظومة الحكم القديمة حزب التجمع ومحيطه التنفيذي، ولم يقع تتبعهم رغم قتلهم التونسيين واغتصابهم النساء وتشريدهم العائلات وتفكيك الأسر.
لماذا وقع التغاضي عن الغرباء عقديا تشكيلات اليسار والقوميين رغم أنهم كانوا خدما وظيفيين لدى منظومات ما قبل الثورة، وأنهم يحملون عداء هيكليا أصيلا (أي في طبيعة خلفيتهم العقدية اليسارية في نسختها الفرنسية) ضد هوية تونس في بعد الدين بدرجة أولى، وهم بهذا المعنى مكون رئيسي في المنظومة القديمة، بل وأشد خطرا وفاعلية من منتسبي التجمع الدستوري.
لماذا وقع تسفيه ورفض منظومة التجمع الدستوري الديموقراطي ولم يقع نفس الشيء مع تشكيلات الوظيفين اليساريين والقوميين الذين كانوا ذراع بن علي لتشكيل الأذهان من خلال احتلالهم قطاعات الثقافة والإعلام والتعليم، ما سبب هذه الانتقائية في اختيار الأعداء رغم سماحة وخفة ذلك العداء للمنظومة القديمة في شقها الحزبي (منظومة التجمع) والتنفيذي (أجهزة العسس والقضاء والتعذيب).
لماذا يقع التعامل مع الهيكل النقابي اتحاد الشغل بطريقة انتقائية، فيقع نسيان تاريخه العفن حيث مثّل منذ عقود حليف السلطات الحاكمة وخادمها في تمرير سياساتها، و كان نصيرها ضد خصومها بدءا من آخر عهد بورقيبة مرورا بفترة حكم بن علي، واذكر إن أردت تحول اتحاد الشغل لمروج لنظام بن علي ومنافس حزب التجمع في الولاء له والترويج لحكمه.
لماذا يقع السكوت عن إجرام اتحاد الشغل في حق تونس بعد الثورة من خلال إغراقه البلاد في مسار تدمير منظم لاقتصادها عن طريق الإضرابات الوحشية وهو في كل ذلك وباعتبار ذلك يمثل جناحا نشطا من مكونات الثورة المضادة.
لماذا يقع نسيان كل ذلك السوء وغض الطرف عنه، ثم القفز مباشرة لمرحلة مشرقة بعيدة في التاريخ وهي تلك التي كان فيها اتحاد الشغل موْئِلا يحتمي به مناهضو الاحتلال الفرنسي من فرنسا.
لماذا يقع التغاضي عن المغالطات التي تريدنا نسيان حاضر اتحاد الشغل والتعامل معه من خلال تاريخه الذي لم يكن للغرباء عقديا الحاليين المتحكمين أي فضل لهم فيه، أولا لأن الفترة الذهبية التاريخية للاتحاد خلال فترة التواجد الفرنسي لم يكن يحكمها الغرباء عقديا أي اليساريون الذين كانوا ساعتها يحومون حول التنظيمات الشيوعية الفرنسية المتواجدة بتونس والتي لم تكن ترى في الاحتلال الفرنسي لتونس أي مشكلة باعتبارها تنظيمات محكومة بخلفية شيوعية أممية، ثانيا لأن الكيانات يتعامل معها كموجودات واقعية وليس كأثر تاريخي، وعليه فما يهمنا -حين تناول الواقع- من اتحاد الشغل هو حاضره وليس تاريخه.
لماذا يقع تناسي حقيقة أن اتحاد الشغل تحول لحزب تشغله التشكيلات الغريبة عقديا من اليساريين والقومين ممن عجزت عن المنافسة في ميدان السياسة بأدوات السياسة، فاستولت على النقابة بتواطؤ السلطات لكي تحولها لأداة سياسة.
لماذا لم يقع التعامل مع المنظومة القديمة في جانبها اليساري والقومي بالتفكيك مثلما وقع التعامل مع حزب التجمع، لماذا هذه الانتقائية.
لماذا لم يقع بعد الثورة حلّ وتفكيك التنظيمات والجمعيات اليسارية التي كانت نصيرة نظام بن علي تحرضه على قتل التونسيين وتعقب والتضييق على النساء الصادقات الساترات وتحصي أنفاس المصلين، وتبرر له كل ذلك أحيانا أخرى حينما يعجزها فعل ذلك بنفسها.
ثم الآن منذ عشرة أشهر، لماذا لا يقع التعامل بصرامة القانون لرد الانقلاب فيعزل المنقلب من بعد أن يشهر ملفه الطبي وملف تمويلاته الأجنبية، ولماذا يفضل التخلي عن الحق القانوني والانتقال لحال الرخاوة الذي مكن للانقلاب من أن يتمدد.
الفعل الموضوعي والفعل المعياري الأخلاقي
1- الأفعال حينما تدخل الوجود يمكن تصنيفها نسبة للأثر المادي الذي أحدثته كأن نقول أنجز عملا أو وظيفة وأعطى لشخص مارّ خبزا و اشتغل جنديا، ويمكن أن تصنف نسبة لسلم أخلاقي فنقول لنفس الأفعال : سعى في الحلال وقاتل العدو و أكرم الضيف، يمكنني أن أقول أن الأول تصنيف موضوعي والثاني تصنيف قيمي أخلاقي نسبة لمعيارية أخلاقية، قد تكون دينية أو وضعية ينتجها المجتمع.
2- التصنيف الموضوعي للفعل عملية مضبوطة بمعايير يمكن تتبعها بأدوات الفهم التي لا تعلق لها بالواقع ولا بالخلفيات القيمية أي أن دلالة الفعل تكون متجاوزة للخلفيات القيمية، بينما التصنيف الأخلاقي لا يأخذ معناه إلا في نطاق مجال مفاهيمي معين محدد بخلفية عقدية / فكرية أو جغرافية، فقتل أحدهم على جبهة الحرب يصنف بطولة في سياق مجموعة بشرية معينة وهو في نفس الوقت يصنف عدوانا لدى مجموعة تتحرك في سياق جغرافي آخر، فهنا اختلاف المجال الجغرافي، ولكن يمكن لنفس المجموعتين أن تشتركا في اعتبار إعطاء المار طعاما إكراما للضيف وقد يختلفان في ذلك مع مجموعة بشرية أخرى لا تقر بكل ذلك معهما الاثنين.
3- التصنيف الأخلاقي للفعل أمر لاحق عن وجوده، أي أن الأصل في الفعل هو بعده الموضوعي ثم يأتي لاحقا عنه التصنيف القيمي أي أخلاقيا، إذ يجب أن يكون هناك ابتداء فعل إعطاء طعام لأحدهم لكي نقول أن هناك فعل إكرام ويجب أن يكون هناك قتال لكي نقول أن هناك مقاومة أو استشهاد.
وسبب ذلك أن التصنيف الأخلاقي يتحرك في مستوى آخر غير مستوى الوجود الموضوعي للفعل، فكل الموجودات الأخلاقية أي التصنيفات الأخلاقية يجب أن تكون موجودات موضوعية أولا، لان التقييمات المعيارية متعلقة بأشياء أخرى سابقة عنها وإلا ما كان من معنى للحكم المعياري حيث سيكون ساعتها حكما على غير موجود.
4- الأفعال حين البحث في تنزيلها واقعا، يجب تناول أبعادها الموضوعية فقط لأنها تفصيلات متفق عليها في الفهم ويمكن ضبطها باتفاق الكل، فالفعل في بدايته ومساره ونهايته / غايته يمكن تتبعه ومعالجته بطريقة واحدة، بينما لو تناولناه بمستوى أخلاقي معياري، فإنه لا يمكن تتبع مساره الموضوعي و إن كان يمكن تتبع مساره الأخلاقي، وهذا يكون مصدرا لتعطيل تنزيل الفعل، لان متعلقات إنهاء الفعل موضوعيا ليست نفسها متعلقات إنهائه أخلاقيا، مثلا فإن السعي الموضوعي لجمع المال ينتهي بتكثيره بينما السعي الأخلاقي يمكن أن ينتهي بتقليله من خلال الصدقة والعطف عن الفقراء، والنهاية الموضوعية المطلوبة لمواجهة العدو في حرب هي غلبته أو قتله لكن التناول الأخلاقي لتلك المواجهة يمكن أن ينتهي بالتخلي عن القتال أصلا إذا كان فعل القتل لا يجوز أخلاقيا / عرفيا / دينيا.
لكل ذلك فان الحديث في الأفعال يجب أن يكون موضوعيا بمصطلحات موضوعية يمكن ضبطها وتتبع مساراتها منذ بدايتها حتى نهايتها والبحث في مدى تحقق أهدافها، ولا يجب إدخال أي بعد أخلاقي / معياري حين الحديث في إنشاء أي عمل، لان ذلك مدخل للفوضى والتنصل من الإنجاز.
5- يمكن القول إذن أن التناول الأخلاقي المعياري للفعل عملية لا تساعد في ضبط مساره ولا التأكد من إنجازه/ تحققه واقعا، و أنه يمكنني الانتهاء لقاعدة تقول باحتمالية غالبة كون التناول الأخلاقي للفعل مدخل للتنصل من إنجازه وتحقيقه، لان المستوى الأخلاقي المعياري لا يمكن من خلاله إثبات التقصير في الإنجاز باعتبار سيولة وتغير حدود ضبط الفعل، وهذا هو المدخل الذي أوتينا منه في تضييع الثورة وهو التناول الأخلاقي لأفعال التصدي للثورة المضادة.
المدخل الأخلاقي كمفسر لانحرافات مواجهة المنظومة القديمة
6- تضييع الثورة التونسية والتهاون مع الانقلاب وبعض نماذجه ما ذكرته في بداية المقال، يمكن إرجاع أسبابه لكثير من العوامل منها الذاتية وهي انكسار من قاد مسار الثورة واستؤمن عليها وربما تواطؤ بعضهم و وقوعه ضحية الإسقاط المخابراتي، ومنها الموضوعي وهي عوامل الواقع المعطلة، لكن سلسلة الأسباب تلك تتغذى من سبب أولي يدور حول معنيين، وهما : العفو والتسامح، فلتناول هذين الفعلين.
العفو والتسامح ليسا من الأفعال الموضوعية، بل هما فعلان أخلاقيان يأتيان لاحقا عن فعلين سابقين عنهما، هما ما يجب النظر والبحث فيه والتساؤل عن مدى تحققهما، و ما كان يجب استعمال هذين الفعلين المعياريين أصلا في سياق مواجهة مع خصوم وأعداء لان ذلك كما وضحت من قبل مدخل للتنصل من الأعمال الواجب القيام به في تلك المواجهة، وان يقع استعمال فعلي العفو والتسامح في سياق مواجهة مع طرف ما من دون الحسم في تلك المواجهة، دليل خلل في مستوى ما.
7- دلاليا، العفو غير التسامح، أولا العفو الذي هو فعل معياري يفترض ضمنيا إخضاع الطرف المقابل موضوع العفو، فتقدر عليه ويسلم لك بالغلبة، وتحاسبه فتسجنه مثلا وتحكم على القتلة ومغتصبي النساء بالإعدام مثلا، ثم بعد ذلك لا تنفذ الأحكام عن بعضهم فتعفو بمقدرة منك، فهل ينطبق هذا عما فعلناه.
نحن بتونس استعمل من قاد الثورة وهم جماعة "النهضة" وعموم من شاركهم، مصطلح العفو لتوصيف مواقف عدم محاسبة المنظومة القديمة ومن شاركها من النقابات واليساريين، ولأنهم استعملوا توصيفا أخلاقيا غير منضبط، فإن الناس لم تنتبه لهذا الخلل التوصيفي ولمدلولاته ولحقيقة كون ما وقع ليس عفوا، فالمنظومة القديمة لم تستسلم ولم تسلم بالغلبة ولم يقع إخضاعها، والثورة لم تقدر عليهم ولم تتم محاكمتهم ولم يتم تفكيك أدوات صياغة الأذهان من إعلام ومؤسسات ثقافية تحكمها تشكيلات اليسار التي روجت لمنظومات بورقيبة وبن علي ولحربهما ضد الإسلام والمسلمين، والنقابات لم يقع تفكيكها أو على الأقل تطهيرها ولم تتم محاسبة المتورطين فيها مع نظام بن علي وهم غالب من يقودها اليوم.
لماذا لم نتفطن لهذا الخلل في التعامل مع الثورة المضادة، سبب ذلك أنه وقع إخفاء ذلك العجز من خلال التستر بغطاء أخلاقي مباح وله قبول وهو فعل العفو، وتم تمرير هذا التمويه لأن التناول الأخلاقي مستوى مطاط يمكن من خلاله تبرير هذه التفريطات والتنازلات، مقابل ذلك أننا لو تناولنا عملية التصدي للثورة المضادة تناولا موضوعيا وليس أخلاقيا، لانتبهنا لحقيقة انه لم يقع التصدي للمنظومة القديمة وان مقومات العفو غير متوفرة أصلا و أن ما وقع تفريط واستسلام.
ثانيا التسامح فعل معياري يفترض ضمنيا طغيان مجال معنوي غالب على حساب مجال آخر أضعف منه، فهو يشبه العفو ولكنه لا يستلزم التصارع المباشر وان كان يستلزم خلافا، واستعمل فعل التسامح لتبرير التنازلات العقدية التي قامت بها "النهضة" باعتبارها حاكمة أو لها الأغلبية المؤثرة في السلطة لصالح اليساريين وعموم الغرباء عقديا ممن لهم ولاءات غربية وفرنسية تحديدا وعداء ضد هوية تونس، فحورب الإسلام بأشد مما كان في عهدي بورقيبة وبن علي وضيق على المسلمين في تونس حتى صار الإسلام غريبا وأهله غرباء وطورد المصلون في بيوتهم وغير بيوتهم بقوانين تزعم محاربة الإرهاب والتكفير، وأشيعت الفاحشة في الإعلام وروج لجمعيات الفجور واللواط والتشكيك في الدين والانتماء، مقابل التضييق على المساجد ومرتاديه وما كان من جمعيات إسلامية، وقد تم تمرير كل ذلك من خلال التغطي بمصطلح التسامح.
ولأن اليساريين أعداء للثورة وممثلون للغرب وحاملو راياته بيننا، فإن التسليم لهم يمثل تسليما للثورة المضادة ولفرنسا، وتمرير القوانين التي ذكرت كان مدخلها فعل التسامح الذي هو حكم معياري مطاط استعمل في غير مجاله، وما كان يمكن الاعتراض على تلك الاستعمالات لأنه حكم أخلاقي يصعب ضبطه والحسم في الرد عليه، من دون الرجوع للفعل الموضوعي المرادف له الذي سيكون الأداة التي من خلالها تفند الأفعال وتتوضح أنها تنازلات وليست تسامحا، حيث أن التناول الموضوعي لما يحصل يبين أن لا تعلق للتسامح بكل ذلك وإنما هو مشاركة من حكم أي جماعة "النهضة" ومن شاركهم في عملية اقتلاع مكثف للإسلام وحرب على المسلمين، بل وحماية وتحصين قانوني للقائمين بتلك الأفعال العدائية بقوانين سيق بمقتضاها الآلاف للمحاكمات وهي قوانين الإرهاب والتكفير.
فثبت إذن أن مدخل التسليم للثورة المضادة وتفريعا عنها الانقلاب، أسبابه متعددة لكنها ترتكز في أصلها على زعمين هما فعلين معياريين : العفو والتسامح، وما هما لا بعفو ولا بتسامح، ولكنها تفريطات وتنازلات المنكسرين الذين تسلموا مقاليد مسار الثورة فأثبتوا أنهم دون المهمة وأقل من أن يقرروا أمرها.
الهوامش
(1) استعملت مسلمات ولم استعمل فرضيات، لفهم ذلك ينظر : الآليات الذهنية لصناعة الضحايا (7) – مسلمات وفرضيات الواقع
https://myportail.com/articles_myportail.php?id=10014