تعتمد عمليات تشكيل أذهان التونسيين على وجود قابلية لدى هؤلاء أن يكونوا ضحايا، وتلك الإمكانية تساهم في وجودها وتكريسها آليات ذهنية عديدة تستغل وضع الأدنى العقلي للفرد وهي حالة يرتكس فيها بعضهم للقبول باطمئنان فرضيات متداولة غر مثبتة وأساليب تفكير بدائية، تناولناها من قبل تباعا، وهي :
فرضية صوابية الواقع (1)، قاعدة التفسير النتائجي عوض التفسير السببي (2)، قاعدة كفاءة المنتوج الدلالي للمحتوى من كلام وكتابة وغيره (3)، التفسير الخطي للواقع عوض التفسير الموضوعي (4).
في بحثنا اليوم، سنتناول مسألة وجود مسلمات وفرضيات للواقع تمثل آليات تساعد في إنجاح عمليات التوجيه الذهني والإلحاق بفرنسا.
الواقع و حتمية الفرضيات (5)
1- إذا استثنينا المطلقات، فإن كل ما دخل الوجود (6) لابد أنه متعلق بشروط إيجاد تجعل ذلك ممكنا وتحدد ظروفه ومتطلبات مجاله الزمني والمكاني، وهذا ينطبق على الماديات واللاماديات.
الماديات أمرها واضح، فذلك البناء له شروط تحترم حين إنشائه واعتبارات تضبط بقاءه، وتلك السيارة لها اعتبارات حين تصميمها وحين صناعتها وظروف تحتم إنتاجها بذلك البلد وليس غيره، وذلك المنتوج الفلاحي يتوفر فقط في ظروف مناخية معينة وينضج في ذلك الظرف الزماني.
إذن حين نتناول هذه الموجودات المادية، فإننا ضمنيا نوافق على وجود تلك الشروط والاعتبارات كمكون من المعنى المنقول إلينا، وهي عناصر لا تذكر منفصلة عادة لأنها متضمنة في المعنى الأصلي للموجود.
هذا المعنى المتضمن يمثل فرضية منقولة في المعنى، وهي فرضية لازمة في الدلالة الأولية للموجود المتناول.
أما اللاماديات، فانه يمكن تناولها من مستويين، المفهوم في بعده المطلق والمفهوم في بعده المضاف، فالفرح والموت والحزن والنشوة حينما تتناول كمفهوم لغوي فإنها تحمل معاني إطلاقية لا تعلق لها بأي ظرف زماني أو مكاني ولا يمكن فهمها هكذا أكثر من أنها تعريفات لا مجالية أي لا تعلق لها بالزمان والمكان، ولكن حينما نقول : موت فلان، ونجاح محمد وحزن سامي، فهنا لاماديات متعلقة ومضافة، فهنا المعنى يحيل لواقع معين تمّ فيه تنزيل المعنى اللامادي الأوّلي.
إذن حين نتناول اللاماديات المضافة، فإننا ضمنيا نوافق على وجود الإضافات كمكون من المعنى المنقول إلينا، هنا الصياغة المركبة (مفهوم مطلق + مضاف إليه) تمثل فرضية منقولة في المعنى، وهي فرضية لازمة في دلالة الموجود اللامادي المتناول.
2- الواقع الذي نعيش فيه ونتعامل مع عوامله، يمثل جزءا ممتدا من مسار سابق، ولم يبدأ معنا نحن، فالوجود البشري عبارة عن علاقات بين الفواعل البشرية وبين الموجودات المادية، و أنت حينما تدخل ذلك الواقع فلكي تأخذ مكانا في مجال مكاني وزمني وتبدأ عملية إنشاء مسارات خاصة بك تمثل أفعالك وعلاقاتك.
إذن فأفعال البشر تمثل مساهمة في بناء كبير نسميه الواقع، فكل من يأتي ينطلق في إنتاج أثر سيكون مراكمة لمجهودات سابقة.
3- لما كان كل موجود له فرضيات وجود (النقطة 1)، ولما كان وجوبا مرتبطا في وجوده بواقع سابق (النقطة 2)، فان كل موجود حتما سيقبل بفرضيات سابقة عليه لا أثر له عليها من حيث وجودها، وثبت إذن أن القبول بفرضيات الواقع أمر لابد منه في أصل عملية الإيجاد.
لكن هل هذه الحتمية متعلقة بالأصل أي في أول الإيجاد فقط أم حتمية في كل مجال الموجود أي أنه يلزمنا الانضباط بتلك الفرضيات دائما.
لو أخذنا نقطة زمنية ما من مسار واقع معين، و ألزمنا الوافد الجديد بالانضباط بكل فرضيات ذلك الواقع في كل زمن وجوده كوافد لذلك الواقع، فذلك يعني أن الواقع لن يتغير وسيحافظ على فرضياته، وهذا ينتهي لحقيقة كون ذلك الواقع ما كان ليوجد أصلا لأنه لو صحّ ذلك في تلك النقطة لصحّ في نقاط زمنية سابقة، ولو كان ذلك كذلك لما خرج الواقع من نقطة العدم أو لنقل البدائية التي كان عليها حتما أولا باعتبار ذلك فرضيات الوجود في تلك النقطة، ولكن الواقع موجود، فثبت أن ذلك الاحتمال باطل، و أن الواقع تغير وهذا لا يتم إلا بعدم الالتزام بفرضياته ووجوب تغيرها، فثبت أن الإلزام بفرضيات الوجود لا يصح إلا في تلك المتعلقة بالإيجاد وتحديدا في عملية ربط الجديد بالموجود، أما ما بعد ذلك فلا.
إذن فنحن لسنا ملزمين بفرضيات الواقع إلا بأقدار معينة وهي تلك التي تمكننا من دخوله والاندماج فيه، ما زاد عن ذلك فليس حتمية.
الواقع و حدود المسلمات و الفرضيات
- الواقع ينبني ضرورة على فرضيات كما وضحنا سابقا، لكن هل ينبني كذلك على مسلمات، الجواب نعم، وهي مسلمات على نوعين:
1- مسلمات عقلية وهي تلك التي تخص الأوليات العقلية التي يتفق عليها كل عاقل من نوع أن واحدا مع واحد يساوي إثنيين واستحالة اجتماع النقيضين وما شابه ذلك.
2- مسلمات وضعية متفق عليها في بيئة معينة، وهي عموما المنظومة العقدية والفكرية المطلقة التي منها يتم تكوين المعمارية الفكرية لتلك الجماعة البشرية، فهي لدينا نحن مثلا الإسلام، فيفترض أن يصبح قول الإسلام مسلمات يعمل بها في تلك المعمارية الفكرية وناسها.
وهذه المسلمات الوضعية أقل صرامة من المسلمات العقلية، لأنها غير ثابتة وغير متفق عليها إلا في نطاق مجال زمني ومكاني محدود.
إذن هناك تداخل بين المسلمات والفرضيات والواقع، ويمكن تفصيل ذلك كما يلي :
- هناك ترتيب في مستوى الأولوية بين المسلمات والفرضيات، كالتالي :
1- أولا تأتي المسلمات العقلية لأنها لازمة للوجود البشري حيث عليها ومن خلالها يتكون الفهم وينشأ الفعل.
2- ثانيا تأتي الفرضيات المادية لأنها لازمة لتواصل الوجود البشري، حيث من خلالها يتم بناء الموجودات المادية.
3- ثالثا يوجد المستوى الذي تتفاعل فيه الفرضيات اللامادية والمسلمات الوضعية، هنا مثلا نقرر أن فلان تزوج و أن ذلك يستتبعه الأبناء والميراث، و أن موت ذلك الأب يلزمه تبعات تتعلق بواجب العزاء ثم مسائل الميراث.
هنا نلاحظ فرضيات لامادية متعلقة بمطلقات الفرح والموت، ولكنها مرتبطة من جهة أخرى حينما تدخل الوجود بما يجب فعله وهو المجال الذي تقرره المعمارية الفكرية المنبثقة من الخلفية العقدية أي المسلمات الوضعية التي في حالتنا الإسلام.
- المستوى الثالث حيث تتحرك وتفاعل الفرضيات اللامادية مع المسلمة الوضعية، تكون الأولى مرتبطة بالثانية، لأنها تأخذ معانيها منها في جزء كبير، فواجب العزاء في الميت فرضية لامادية لكنها تأخذ معناها من معمارية فكرية أي من المسلمة الوضعية التي في حالتنا الإسلام، وحزن سامي مبني على فرضية لامادية لكن المسلمة الوضعية الضابطة (الاسلام) تقول بأن عليه أن يصبر في مصابه وأنه سيجازى على ذلك.
هناك بالمقابل فرضيات لامادية لا تعلق لها بالمسلمة الوضعية الضابطة (المعمارية الفكرية)، فوقوع الكوارث يستدعي التوقي والتمنع منها بقطع النظر عن أي مرجعية فكرية، وظروف الطقس تستدعي لباسا ملائما لكن كيفية اللباس يؤثر فيها المعمارية الفكرية.
- المستوى الثالث هو الذي يكون موضوعا للتغير في محتواه، لان التحرك فيه غير محدد بطريقة واضحة، والإشكال يقع تحديدا في مستوى الانضباط بالمسلمة الوضعية (المعمارية الإسلامية في حالتنا)، وليس في مستوى الفرضيات اللامادية في أصلها لأن تلك أساسا متغيرة حسب المعمارية الضابطة أو مستقلة كما رأينا.
التحكم بالواقع من خلال التصرف في المسلمات
- مستوى الواقع هو ذلك الذي يتحرك فوق طبقة تؤطرها المسلمات الوضعية (مرجعية الإسلام في حالتنا) والفرضيات اللامادية كمعطى لازم، ولأن هذا المستوى موضوع لكي يتغير فذلك يعني انه يمكن ضخ محتويات فيه بحيث يقع توجيه أفعال الناس ومن هناك التحكم في الواقع، يتم كل ذلك من خلال التصرف في المعمارية الفكرية الضابطة للواقع وأدوات فهمها وبنائها.
- حينما نأخذ حالتنا في تونس حيث معماريتنا الفكرية مفترض أنها مبنية على الإسلام في بعد فهم الوجود وضبط الأفعال وتقييمها معياريا، فإنه تم التصرف في تلك المعمارية، وهنا يمكن توضيح ذلك كما يلي :
1- إدخال فاعل آخر منافس للإسلام كمكون للمعمارية الفكرية لدى التونسيين، بحيث تصبح مفاهيم الوجود ومجال ضبط الأفعال محددا بمرجعيتين عقديتين على الأقل : الإسلام من جهة والمنظومة الفكرية الغربية من جهة أخرى.
2- في شريحة أخرى من التونسيين، تم ضخ معمارية فكرية غربية / شرقية يسارية زرعت لدى الفواعل الإلحاقية اليسارية تلك التي تريد إلحاقنا بالمعمارية اليسارية الماوية أو اللينينية أو حتى الألبانية والكوبية في فترة ما، علما أن تلك التجارب كل منها تمثل معمارية فكرية بذاتها لأنها تعتمد المرجعية اليسارية متزاوجة مع واقع تلك التجرية وهذا التزاوج بين العقيدة والواقع هو محور مفهوم المعمارية الفكرية.
3- منافسة الإسلام كمحدد للمعمارية الفكرية لدى التونسيين بمرجعيات عقدية مغالبة، تمّ بمجهودات السلطة التي حكمت تونس منذ عقود ودعمتها في ذلك الفواعل الإلحاقية بمكوناتها اليسارية والليبيرالية والزيتونية ثم الإسلامية (الاتجاه الإسلامي / النهضة)، و إن كانت دوافع مواقفهم تختلف بين متبني أصيل كاليساريين وجاهل بالمسألة أصلا كالزيتونيين وغير معني بالفهم كالليبيراليين ومرغم / راضخ كالإسلاميين.
4- خضوع التونسيين لمعمارية فكرية توجهها وتؤثر فيها خلفيات عقدية متنافرة و متغالبة وهي : الإسلام كمرجعية أولية مفترضة غائمة وفي طريق الاستبعاد التدريجي، المركزية الغربية بقيمها الكونية المزعومة في شق التأثير الفرنسي، اليسارية بمختلف تجاربها في حالة الفواعل الإلحاقية التي تتحكم في الإعلام والثقافة والتعليم، نتج عنه:
- وقع التحلل من الالتزام بالإسلام ومنظومته الضابطة، لأنه لم يعد المكون الوحيد للمعمارية الفكرية للتونسيين، وحينما تتعدد مراجع التحكم لا يمكن للفعل أن يحاسب على عدم اعتماده على مرجعية دون غيرها، لأن أرجحيه الاعتماد تحولت من احتمال كامل لاحتمال موزع، أي حينما يكون الإسلام المرجعية الوحيدة المعتمدة في المعمارية الفكرية فإن الاحتمالية المفترضة لضبط الفعل ستكون واحدا مقسومة على واحد أي مائة بالمائة، وحينما تكون المعمارية الفكرية موزعة على مرجعيتين فكريتين الإسلام والمركزية الغربية وقيمها الكونية المزعومة كما هو لدينا الآن بتونس، فإن أي فعل تكون احتمالية انضباطه بالإسلام مثلا تساوي واحدا مقسوما على اثنين وهو عدد المرجعيات الفكرية الضابطة، فاحتمالية التزام الفعل بالإسلام تنزل لخمسين بالمائة، وحينما نضيف لذلك مرجعيات يسارية، ينزل الاحتمال لحوالي 30 بالمائة.
- لإضعاف احتمالية انضباط أفعال التونسيين بالإسلام، تمّ التحرك في اتجاهين، أولا من خلال التحكم في مصادر إنتاج الرأي والموقف الذي يصدر من خلفية إسلامية بحيث تصبح كميا محدودة، ثانيا غياب ذلك التحديد في مصادر إنتاج الموقف المغالبة للإسلام، ونرى ذلك في :
1- جعل المؤسسة الدينية تتبع الدولة : المفتي، وزارة الشؤون الدينية، لكي يسهل التحكم في مصدر الرأي الذي يقول برأي الإسلام كميا ومحتوى من خلال التحكم في معاني ذلك الرأي بحيث لا يكون مستقلا (7)، و يصبح كأنه لم يكن وغير متعارض مع رأي المتحكمين بالواقع.
2- ترهيب ومطاردة والتضييق على كل تدين يعمل خارج أطر سلطة المتحكمين بالواقع، من ذلك منع الأحزاب ذات التوجه الإسلامي والتضييق عليها إن وجدت، منع أو التضييق على الجمعيات والمنظمات والروضات القرآنية والمدارس التي تتحرك بخلفية إسلامية، لأنها مصادر محتملة لإنتاج معيارية إسلامية، مقابل السكوت وتشجيع المدارس التي تروج للمعمارية الفرنسية.
3- هذه الممارسات ينتج عنها إضعاف احتمالية انضبط الفعل بمرجعية الإسلام، لأنه حينما تتكاثر مصادر الضبط القيمي للفعل، يسهل إبعاده عن مصدره، حيث احتمالية الانضباط به تصبح مقسومة على عدد مصادر الضبط الجملية أي المنافسة مع واحد.
لنأخذ مثلا حينما يقع التحكم في الإسلام كمنتج للمواقف من خلال ما ذكرنا، ويقع الإبقاء والتشجيع على مصادر تشكيل الأذهان التي تتخذ المركزية الغربية أو اليسار بمختلف تجاربه كمصادر، فسيكون الوضع مثلا أن مصادر الأفكار المحددة للمعمارية الفكرية، الإسلام المتحكم فيه مضافا إليه 3 مصادر أخرى (المركزية الغربية والقيم الكونية، اليسارية كما يفهمها المتحكمون في أدوات تشكيل الأذهان، المدارس الخاصة الفرنسية التي تقدم معمارية فكرية فرنسية بحتة موجهة للتونسيين والمسموح بها في تونس)، فإن الفعل ستكون درجة انضباطه بالإسلام تساوي 25 بالمائة أي واحد على اربع.
- تعدد مصادر التأثير في معمارية فكرية لمجموعة بشرية يجعل المجال متاحا للتحكم في أفعال الناس ومن هناك توجيهها، لان الفرد لا يملك وقتها مقومات الاختيار والرفض وبالدقة فان تلك المقومات تصبح لديه مشوشة وغير موحدة، لأنه أساسا لا يملك أدوات الفهم الذي يمثل المرحلة الأولية لاتخاذ الموقف، فالتشويش الذهني الذي يوجد فيه الناس ممن لا يخضعون لمعمارية محددة سيكون المصير الوحيد، لان الفهم المقصود هو الذي يتعلق بعلاقة الفعل بمرجعية فكرية، وحينما تتعدد المرجعيات وتتصارع وتتنافس في مجال ما، يصعب الحكم حين تقييم فعل ما معياريا.
- حالة التشويش الذهني لدى الناس في فهم الوجود الحاصل من معمارية فكرية تتنازعها خلفيات عقدية متغالبة، تمثل الأرضية التي يسهل من خلالها اعتماد أساليب التوجيه الذهني وزرع المغالطات والترويج لفرضيات غير صحيحة، سبب ذلك أن أي فعل يحمل احتمالية الصوابية وكلما زادت الخلفيات العقدية نقصت احتمالية صوابية الفعل نسبة لمرجعية فكرية ما، لكن الفعل يصبح اكثر احتمالية للقبول في المطلق، لأنها كلها ممارسات محتملة لخلفية فكرية معينة، بحيث إن رفضت فعلا ما نسبة للإسلام فستجد زميلك بالشغل يقبله اعتمادا على المرجعية الفرنسية التي تقول بكونية القيم مثلا، وان رفضتما ذلك الفعل نسبة للمرجعية الإسلامية والفرنسية فقد تجد من يقبله اعتمادا على المرجعية اليسارية، وان رفضتم كلكم ذلك الفعل فقد تجدون من يقبله نسبة لمرجعية عبدة الشياطين مثلا.
- تعدد مصادر ومنابع المعمارية الفكرية يجعل المجال متاحا لطرح مسلمات وفرضيات متنافرة للتحكم في الناس وتوجيههم نحو نهايات تخدم مصلحة القائم بتلك العملية، وستنشأ مثلا فرضيات تقول بأهمية اللغة الفرنسية وعجز اللغة العربية أن تستعمل في المجالات العلمية وستتكون مسلمات تقول بضحالتنا وعجزنا الدائم عن اللحاق بالغرب ومنافسته وحتمية بقائنا تبعا، وسيقع القبول بكل ذلك من دون اعتراض لأن مقومات النظر الفكري لإنتاج موقف لم تعد متاحة من خلال تشويش أدوات النظر المستمدة من المعمارية الفكرية التي وقع التلاعب بها وأصبحت مجال فوضى.
- إذن يمكن الخروج بالقواعد التالية :
1- كلما تعددت المصادر العقدية لمعمارية فكرية ما، أي كلما كانت تلك المعمارية مهملة سائبة بحيث يغشاها الكل كما هو الحال لدينا في تونس للأسف، كلما أصبحت أفعال الناس اقل احتمالية للضبط ولها احتمالية القبول قيميا بطريقة عشوائية، وعكسيا كلما كانت المعيارية الفكرية معتنى بها كانت أفعال الناس منضبطة ومما يمكن تقييمها معياريا.
2- كلما كانت المعمارية الفكرية مهملة وسائبة، كلما كانت احتمالية التلاعب بالناس وتوجيههم أسهل وكثرت الفرضيات التي جعلت للتحكم في الناس، فهناك علاقة تصاعدية خطية بين كثرة المغالطات وسهولة توجيه الناس وبين غياب معمارية فكرية معتنى بها.
أهمية المعمارية الفكرية في منع التبعية
- الحديث عن توحيد مصادر فهم الوجود وتقييم الأفعال لمجموعة بشرية لا يعني كما قد يرى البعض تسلطا مذموما، وإنما نقصد به جعل المجموعة البشرية منسجمة وأفعالها متناسقة تحكمها منظومة ضابطة واحدة وهي ما نمسيه المعمارية الفكرية، ولكم أمثلة :
1- المعمارية الفكرية في فرنسا تمنع تعدد اللغات رغم أن فرنسا متعددة القوميات واللغات، و فرنسا تسرف في حماية لغتها وتجعل ذلك مكونا مهما في معماريتها الفكرية، ولا تسمح فرنسا بغير استعمال الفرنسية في الكتابات بالمساحات العامة (وان وجدت استثناءات فهي محددة)، ولا ستستعمل لا الانجليزية ولا العربية ولا اللغات الأخرى وبالطبع لا تسمح باستعمال اللهجات، وقارنوا كل ذلك بحالنا في تونس حيث مجالنا العام مستباح من اللغة الفرنسية واللهجات، وافهموا الفرق بين بلد تحكمه معمارية فكرية معتنى بها و آخر تحكمه معمارية سائبة.
لماذا؟ لان فرنسا أولا تفهم قيمة توحيد اللغة كمكون لهوية المجموعات البشرية، وتفهم أهمية توحيد ذلك في المعمارية الفكرية لمجموعة بشرية.
2- المعمارية الفكرية في الولايات المتحدة الأمريكية لا تستعمل إلا الانجليزية رغم تعدد اللغات هناك وتعدد القوميات، فأمريكا مثل فرنسا تدخلت وحددت مكونات اللغة في معماريتها الفكرية ولم يفهم ذلك انه تسلط، وسبب ذلك مثل الحالة الفرنسية فهم لأهمية اللغة وتوحيدها في هوية المجموعات البشرية.
- حينما تكون المعمارية الفكرية موضوع عناية في مكوناتها فإنها تعصم من الوقوع في وضع تبعية وتمنع من تكوين فرضيات ومسلمات تقود للتبعية، ولنأخذ حالة تونس، وكما وضحنا من قبل فان المعمارية المقترحة لتونس (8)، يجب أن تكون محاورها الإسلام كمفسر للوجود وضابط لأفعال الواقع واللغة العربية كلغة وكحامل حضاري، وتونس التاريخية كمحدد لشخصيتنا، فإنه حينما نلتزم بأحد مكونات هذه المعمارية وهو الافتخار والتذكير ببعد تونس التاريخية التي كانت تمتد من جنوب إيطاليا وصولا لشرق الجزائر مرورا بشمال ليبيا، وتتبناه السلطة والفواعل المفكرة، فإنه يستحيل أن نقبل وضع التابع لأي جهة فضلا أن تكون فرنسا، وسيصعب تكوين المسلمات والفرضيات التي تقول بالتبعية لفرنسا من طرف أي كان، وسيقع رفض أي فواعل إلحاقية تدعو لجعلنا مجرد لواحق للغير، وستندثر الحزيبات والتنظيمات التي تدعو لإلحاقنا بالغير، وستضطر بدل ذلك للعمل على المناداة بتونس التاريخية والمطالبة باسترجاعها مرة أخري.
فالمعمارية الفكرية إذن ليست فقط في بعد ضبط الأفعال أي الإسلام وإنما في بعد اللغة وبعد الامتداد التاريخي.
الهوامش
(1) ينظر لمقال : الربط بفرنسا: الآليات الذهنية لصناعة الضحايا (1)
(2) ينظر لمقال : الربط بفرنسا :الآليات الذهنية لصناعة الضحايا (2) – التفسير النتائجي
(3) ينظر لمقالات :
الربط بفرنسا: الآليات الذهنية لصناعة الضحايا (3) – المحتوى والمعنى
الآليات الذهنية لصناعة الضحايا (4) – المعنى والمعمارية الفكرية
الآليات الذهنية لصناعة الضحايا (5) – المعنى و وعي الأصنام
(4) بنظر لمقال : الآليات الذهنية لصناعة الضحايا (6) – التفسير الخطي
(5) نستعمل لفظي فرضية وافتراض بالمعنيين التاليين : الفرضية هي ما يسبق الفكرة قبل تحولها لنظرية، حيث تبقى صحيحة حتى يقع إثبات فسادها، وبهذا المعنى يتعامل الناس مع الواقع حيث يعتبرونه صحيحا، وهذا يشمل مجمل بديهياتهم نحوه، أما الافتراض فهو يقرب للتخيل والاحتمال، واكثر استعمالاتنا في هذه البحوث تدور حول الفرضية وليس الافتراض.
(6)قد يتساءل البعض ماذا نقصد بالوجود في بحوثنا هذه، لأنه بالمقابل يستعمل عادة في مثل هذه الحالات مصطلحان : الوجود بالقوة والوجود بالفعل، فأيهما نقصد ولماذا أصلا لا نستعمل هذين المفهومين.
أولا : نقصد بالوجود ما يعنيه مصطلح الوجود بالفعل.
ثانيا : حول عدم استعمال هذين المصطلحين : هما في الأساس مصطلحان موروثان من أرسطو وتصوراته التي تدور حول الهيولي والصورة وتفريعاتهما، و توراث فلاسفة المسلمين ذلك وزادوا فيها تفصيلات وتوسعوا في استعمالاتها، لكن بالمقابل أرى أنها تقسيمات للوجود غير منهجية حيث يقع خلط الموجود القابل للقياس (الوجود بالفعل) بذلك الذي لا يمكن قياسه (الوجود بالقوة)، و إن كان يمكن تقريب معنى الوجود بالقوة لمفاهيم حديثة من نوع القوة الكامنة في الفيزياء (L'énergie potentielle )، لكنها تبقى شيئا فضفاضا غير قابل للقياس عكس القوة الكامنة الفيزيائية التي يمكن قياسها سواء أكانت جاذبية أو قوة كهربائية أو غيرها، فالوجود بالقوة في المفهوم الأرسطي يقرب لمعنى القوة الكامنة المؤدية لاحتمالية الفعل.
نحن نفهم الوجود أنه ما يمكن قياسه، لذلك نستعمل مقاربات رياضية كلما أمكن ذلك لأن ما نتحدث فيه مما يقاس نسبة لمتغير الزمن ولمتغيرات أخرى متعلقة بالموجود.
(7) سيقع لاحقا تفصيل كيف أننا نرى وجوب عدم إخضاع الفواعل الإسلامية (المفتي، أئمة المساجد والجمع) لأي سلطة وخاصة السلطة المتحكمة بالواقع، وإلا فإنها ستصبح أدوات دعاية لتبرير وتكريس ذلك الواقع الفاسد كما هو حاصل الآن، وأساسا ما تمّ إلحاق تلك الفواعل بالسلطة إلا خوفا من منافستها وتبيان رأي الإسلام في فسادها، وتأثيرها في الواقع نحو جعل أفعال الناس اكثر احتمالية للانضباط برأيها.
وحينما تكون تلك المؤسسات ملحقة بالسلطة المتحكمة بالواقع كما هو حاصل الآن في تونس وغير تونس، فيجب أن تفهم أنها لا علاقة لها بالإسلام دين التحرر ورفض الخضوع للواقع والحكام الفاسدين، وإنما مؤسسات دعاية وضبط وتحكم جماعي.
(8) بنظر لمقال :الآليات الذهنية لصناعة الضحايا (4) – المعنى والمعمارية الفكرية.