تنطلق مجمل كتاباتي من مسلمة وقع البرهنة عليها سابقا (1)، وهي أن فرنسا تسيطر على تونس من خلال منظومة معقدة، و أن فرنسا تعمل على التحكم فينا من خلال أدوات توجيه ذهني وهو ما أسميته الربط اللامادي (2) و أهمه فرض استعمال اللغة الفرنسية في كل المجالات بما فيها المساحات العامة مما ينتج ارتباطا ذهنيا ووجدانيا لدى التونسيين بفرنسا (3) و فرض تدريس البرامج الفرنسية للتونسيين في المدارس الخاصة (4) مما يخلق أجيالا منبتة كارهة لذاتها محبة لفرنسا ومخلصة لمصالحها، ثم بدرجة أقل التأثير من خلال أدوات ارتباط مادي كالاتفاقيات والعلاقات الاقتصادية المجحفة، و أن التونسيين لم ينتبهوا طيلة عقود إلا للربط المادي مع فرنسا أي للعامل الأضعف في التأثير ولم يتناولوا العامل الأخطر وهو الربط اللامادي معها، لذلك تواصل حال التبعية والهزال والهوان الذي نعيشه نسبة لفرنسا.
وعليه فإن تونس تعد محتلة بصيغة ما (5) و أن ذلك يستدعي عملية تحرير وطني يشبه حركات التحرر الوطني التي اجتاحت العالم منتصف القرن العشرين، بالمعنى اللفظي الحقيقي وليس المجازي.
لكل ذلك فإني أرى أن الانقلاب ما هو إلا تفصيل صغير من مشكل أكبر وهو تحكم منظومة فرنسا في تونس، ومن أراد التعامل مع الانقلاب فليتعامل مع منظومة فرنسا بتونس و إلا فإنه حتى ولو سقط قيس فستنصب فرنسا غيره من خلال بقاياها المبثوثين بالإعلام والنقابات والمنظمات والأحزاب، وبالتالي فالنظر المنهجي لهذا الانقلاب يجب أن يكون كالتالي :
الفرز على قاعدة السياسة مدخل لتقوية منظومة فرنسا
1- قيس سعيد شخص نشط بفعالية ضمن منظومة ما قبل الثورة كعون من أعوان بن علي لتبرير تجاوزاته الدستورية، و أن يقع بروز قيس ما بعد الثورة كشخصية عامة لها قبول ذلك يعني أولا وجود خلل في مستوى وعي جهاز الدعاية والتوجيه الذي يتبع الثورة بحيث لم يفضحه وقبل بأحد عسس بن علي أن يكون نشطا في مجالهم، ثانيا دليل على وجود خلل في الطريقة المعتمدة لفرز الأعداء بعد الثورة لأنها قالت بأن شرط العداوة هو الانتماء السياسي وحصرا المنتمين للجهاز الحزبي لبن علي وهو حزب التجمع ولم تنظر لمنظومة بن علي التي كانت مكلفة بتشكيل الأذهان من إعلام وثقافة وتعليم، وهي التي كانت تديرها المجموعات اليسارية والقومية، ولا بالمكلفة بالاختراقات الدستورية كالتي كان ينشط فيها قيس سعيد والصادق بلعيد ومحفوظ ولم تعتبرهم مجرمين مثل المنتمين لحزب التجمع.
2- فشل أداة فرز أعداء الثورة كان سببه الاكتفاء باعتماد مقياس الانتماء السياسي، وهذا مبني على فرضيات ضمنية غير مبرهن عليها، تقول أولا بأن المستوى العقدي لدى التونسيين متجانس في مجمله و أن الخلاف مع أقلية منهم لا يمثل خطرا، وثانيا أن الاختلاف وحتى الخلاف السياسي هو العامل المؤثر في باقي مجالات الحياة كالاقتصاد والثقافة وثالثا أن الخلاف العقدي لا يمكن أن يؤثر في باقي المجالات كالسياسة والثقافة والاقتصاد.
3- اعتماد مقياس الاختلاف السياسي كعامل فرز وإهمال العامل العقدي كمؤثر وبالتالي استبعاد تصنيف الفاعلين السياسيين من خلاله أي نسبة لانتماءاتهم الفكرية، موقف في أساسه رأي فكري يصدر من تأثيرات التصور الفلسفي الذي يقول بالمادية الماركسية وأصالة المادة والواقع عموما مرجحا على الرأي المقابل القائل بأصالة الفكرة والعقيدة، لذلك فالتصورات المادية اليسارية وغيرها تقول باعتماد الواقع ومكوناته كمقاييس للحكم بالصوابية و تستبعد بالنتيجة العقيدة كمقياس لتقرير صوابية الواقع والتصنيف.
ولئن كان مفهوما أن تعتمد منظومة فرنسا بتونس ومكوناتها في الإعلام والثقافة هذا التوجه الفكري العقدي بحكم غرابتهم عقديا وعداوتهم للإسلام، فإنه يبقى غير مفهوم أن يعتمد الإسلاميون بتونس أي حركة النهضة وائتلاف الكرامة نفس الموقف الفكري أي أصالة الواقع عوض أصالة الفكرة و العقيدة كأداة فرز وتقييم، وان يعتمد إسلاميو تونس مقياسا ماديا للفرز فذلك دليل عن تخليهم عن أسسهم الفلسفية التي تقول بأصالة الفكر كمرجح للحكم على الواقع وليس اعتماد الواقع للحكم على صوابية الأفكار، وهذا يطرح أسئله حول جدارة الانتماء الفكري للإسلام لدى هؤلاء، إلا أن يكون الإسلام المقصود لديهم يفهم كمنظومة شعائرية طقوسية وليس كمنظومة شاملة تغالب المنظومات الكبرى المؤطرة للعالم بدءا من التصورات الفلسفية للوجود وصولا لما بعد الوجود.
4- موافقة النهضة وائتلاف الكرامة اعتماد السياسة كعامل فرز عوض الانتماءات العقدية، يعني تحول مجال الفعل السياسي بتونس كله خاضعا للتأثيرات الفكرية الغربية وخلوها من أي تأثير فكري إسلامي لأنه مجال أصبح خاضعا ابتداء لتصوراته في التقييم، و أن استدعاء الإسلام من طرف البعض فعل لا يجاوز الشكل بغرض التوظيف، لأن الإسلام منظومة متكاملة لها تصوراتها في تنزيل الفعل وتغيير الواقع يجب أن تحكم وتؤطر الفواعل، لا أن يقع محاصرته وتوظيفه من طرف منظومات مغالبة له كما يحصل الآن.
وجوب اعتماد الفرز العقدي لتغيير الواقع في تونس
5- لما كان الواقع في تونس محكوما بتصورات تقول بأنه لا يجب اعتماد الفرز العقدي الفكري والاكتفاء بالفرز السياسي، ولما كان نفس هذا الواقع خاضعا لتأثيرات منظومة فرنسا العقدية من إعلام وثقافة، فإن هذا الواقع ذاته يستحيل تغييره ما دمنا لم نخرج من شروطه الأولية المذكورة، لان تفكيك هذه المعادلة يكون إما بتكسير القاعدة التي تقول بعدم الفرز العقدي أو بانتفاء وجود المؤثرين بقايا فرنسا في تونس، ولكن هؤلاء ككيانات مادية موجودون، وثبت بالتالي أن شرط تغيير واقعنا يكون وجوبا باعتماد الفرز العقدي للأطراف الفاعلة في تونس و أن واقعنا لن يتغير ما دمنا لا نعتمد الفرز العقدي ونكتفي بالفرز السياسي.
6- حينما نرفض الفرز العقدي، فإننا نفرط في أدوات قوة من أيدينا لتعقب أعدائنا لأننا نستبعد كشف مجالات للفعل يقومون بها بما أنها أفعال محمية إما بغطاء الانتفاء بحكم أنها لا تخضع للخصام السياسي فيقع التجاوز عنها والحال أنها عداوة فكرية مؤدية لمكاسب سياسية واقعية مثل ذلك الحرب على الإسلام بغلق الروضات القرآنية ومطاردة المصلين وإشاعة الفاحشة بالمساحات العامة والإعلام، فإنها أفعال بالنهاية ستؤدي لتوسع الشارع المنحرف عقديا (زنا، سكر، تبرج,,,) الكاره للإسلام ولمن يحمل مشروعه وهذا سيقود لتنامي الصف المقابل الخادم لمشروع فرنسا الإلحاقي بها، إذ هناك علاقة تناسب بين كره الإسلام وحب فرنسا إذ يندر أن تجد تونسيا محبا لفرنسا وليس كارها للإسلام، وإما من خلال الحماية القانونية ووقع ذلك بتونس من خلال استصدار قوانين ظاهرها ممارسات إجرائية (قوانين : التكفير، الإرهاب، اللواط، الزطلة، ,,,) ولكنها في أصلها حرب على الإسلام لتضييق مجالات تأثيره في الواقع وتأثير السياسيين ممن يتبناه كخلفية عقدية، وهو فعل يتدثر بنفس الغطاء أي التحرك تحت زعم عدم أهمية المحرك الفكري لكي لا يكشف العداء العقدي ولا المنتج السياسي الواقعي المحصّل بالنهاية.
7- حينما نعتمد الفرز العقدي للفواعل المؤثرة في تونس، فإننا ننزع من فرنسا أحد أهم أدواتها تأثيرا في حربها ضدنا لأن فرنسا و أتباعها فرضوا علينا واقعا كالمجرم المتخفي الذي يفرض عليك أن لا تقول له يا مجرم وحينما تستفيق وتنعته بالمجرم سينتبه الناس له ولخطورته.
وحينما يقع الفرز العقدي، سنجد بطريقة مكشوفة على رأس قائمة التقابل فرنسا ومن يتحرك في مجالها الفكري العقدي من جهة أي الإعلام والنقابات والمنظمات والأحزاب المغالبة عقديا للتونسيين، ومن يقابل ذلك من جهة ثانية، وفي كل طرف فكري يمكن تواجد كيانات سياسية، ويصبح عراكنا مع فرنسا عراكا واضحا في أصله فعل فكري عقدي يسهل مهمة التصنيفات والتفطن للحقائق، وسيصعب على ممثلي منظومة فرنسا التحرك في المجالات المخفية كما يحصل الآن (أي محاربة الإسلام بحماية قانونية و إلا ستحاكم بقانون التكفير مثلا، لأن ذلك يعطيهم ميزات في الواقع ويحمي مصالح فرنسا), وبالتالي يصبح اعتماد الفرز العقدي هو الأداة الوحيدة التي تظهر فرنسا سافرة في عداوتها لنا ومن تبعها من بقاياها ومنظومتها المعادية لنا.
8- حينما نفكك أو نعمل على تفكيك منظومة فرنسا بتونس، فإن ذلك سيؤدي آليا لتفكيك منظومة الثورة المضادة، وتفصيلا عن كل ذلك إسقاط انقلاب قيس.
بالمقابل فإن إغفال حقيقة كون صراعنا مع الانقلاب تفصيل عن الصراع مع منظومة فرنسا بتونس و كون صراعنا مع فرنسا صراع عقدي وهو كذلك مع بقاياها، فإنه مسعى سيكون نتيجته جهد عبثي من دون نتيجة إيجابية، إذ إن أنت أسقطت الانقلاب فستتحرك منظومة فرنسا الإعلامية والنقابية وستضع مقربا منها خادما لمصالحها بالسلطة إما رئيسا أو رئيس حكومة أو وزيرا (تذكروا كم من فرنسي حكم تونس بعد الثورة)، و إن أنت صارعت منظومة فرنسا بتونس كمنظومة تبعية اقتصادية فقط من دون النظر في طبيعة الصراع العقدي والربط اللامادي معها، فإنك قد تلغي بعض الاتفاقيات ولكن ستبقى تحت التأثير الفرنسي، والأهم ستُبقى منظومة فرنسا ومكوناتها المؤثرين ذاتيا إذ لم تنتبه لهم، لأن هؤلاء في النقابات والإعلام والمنظمات وصلوا مرحلة من التبعية "الناضجة الفعالة" بحيث أصبحوا مروجين للارتباط مع فرنسا و كره الذات في استقلالية تامة عن فرنسا، لذلك تجد الكثير من هؤلاء التونسيين يدافع عن فرنسا وعن اللغة الفرنسية أكثر من فرنسا، وتجدهم يعادون الإسلام ويدافعون عن مصالح فرنسا اكثر من الفرنسيين أنفسهم.
الهوامش
(1) يمكن الرجوع لعشرات المقالات المنشورة بموقعي بوابتي والزراع التي تتناول العلاقات غير السوية لتونس مع فرنسا ووجوب هدمها
(2) يمكن الرجوع ل17 مقالا تتناول بالتفصيل الربط اللامادي لتونس بفرنسا، بموقعي بوابتي والزراع
(3) ينظر لمقال : استبعاد اللغة الفرنسية شرط تفكيك الروابط اللامادية مع فرنسا
https://myportail.com/articles_myportail.php?id=9848
(4) ينظر لمقال : التونسيون والعلاقة غير السوية مع فرنسا: خطر الربط اللامادي
https://myportail.com/articles_myportail.php?id=9853
(5) لأني اعتبر تونس محتلة مباشرة بصيغة ما بالمعنى الحرفي للكلمة، فإني كتبت مقترح عملية تستغل الانقلاب لإطلاق مشروع تحرر وطني حقيقي يهدف للتخلص من فرنسا وبقاياها، ولكن المقال جوبه بنوع من السخرية للأسف
أنظر : خطة لمواجهة الانقلاب : الأسس
https://myportail.com/articles_myportail.php?id=10037