كان ذلك في أواخر الستينات،
في مساء ذلك اليوم القائظ من أيام شهر أوت ،دبت الحياة في ريفنا الكافي البعيد فجأة ،المناسبة:سيارة وزارة الثقافة تجوب المسارب الضيقة داخل الدشر والدواوير ونداء يجلجل من أبواقها المثبتة فوق سقفها:أيها المواطنون أيتها المواطنات تسهرون الليلة مع شريط سينمائي طويل بطولة فاتن حمامة وعمر الشريف في ساحة المستوصف،وكعادة الاطفال في الارياف جرينا وراء السيارة وحدفناها بالطوب وعندما توقفت اعتلينا سقفها ورحنا نردد :أيها المواطنون،أيها المواطنات،عندما عدت للدوار وجدت يمّة وكل متساكني الدوّار قد اجتمعوا في حوش عمّي وهم في حيرة من أمرهم :ما معنى شريط سينمائي؟،ومن هو عمر الشريف ؟ومن هي فاتن حمامة؟،
اصطحبتني يمة إلى كوخنا البائس وطلبت مني أن ألبس أفضل ما لديّ وطلبت من أبي أن "يتهمّم "ويلبس بدوره أفضل ما لديه،وتكحلت هي وتسوّكت،ووضعت "حجرها الفضي"كما تفعل في المناسبات السعيدة وسلكنا المسرب الضيق المؤدّي إلى "الفيلاج" حيث المستوصف،صحبة متساكني الدوار الذين ارتسمت الحيرة على وجوههم وهم يتطلعون لحضور هذا الحدث الفارق في حياهم ،وصلنا إلى ساحة المستوصف قبيل المغرب،فأعلمنا العمدة أنه علينا أن ننتظر حتى يعمّ الظلام لنشاهد الشريط السينمائي ،
افترشنا الأرض في انتظار العرض،وبعد ساعة او ساعتين وصلت سيارة وزارة الثقافة وتوقفت في مواجهة الحائط الشمالي للمستوصف،تم فتح بوابة جانبية وظهر جهاز غريب ضخم انبجس منه ضوء ساطع انعكس على حائط المستوصف،ساد صمت رهيب ونحن نتابع ظهور كتابات باللغة العربية أعقبتها مشاهد لشخصيات تتكلم مثلنا وتلبس لباسا افرنجيّا انيقا،ضمتني يمّة إليها بحرص،وكأنها تريد حمايتي من هذا الوافد التكنولوجي الغريب،
رحنا نتابع الشريط بانتباه شديد حتى حصل المكروه:البطل ضمّ البطلة وقبلها من شفتيها !أما النساء فقد غطّين وجوههنّ بأكفهنّ،وأما الرجال فقد أشاحوا بوجوههم وهم يستعوذون ويحوقلون،وما أسرع ما عمد بعضهم إلى رجم حائط المستوصف بالحجارة،ليعمّ الهرج والمرج ويتوقًف العرض! لترتبط السينما في اذهان الفلاحين البسطاء ولسنوات طويلة "بقلّة الحياء "وعدم احترام العادات والتقاليد! ولم يتصالحوا مع السينما الا ليلة عرض فيلم الفجر لعمار الخليفي ،ذلك الفيلم الذي أيقظ فيهم روحهم الوطنية الكامنة وأطلعهم على جانب مشرق من تاريخهم،حتى أن النساء كنّ يزغردن حين يهاجم البطل جنود المحتل،ويهلل الرجال ويكبرون بأعلى أصواتهم!
تذكرت أحداث تلك الليلة الستينية البعيدة وأنا أتابع ردّة فعل النقابيين الأمنيين إزاء عرض الممثل الكوميدي لطفي العبدلّي ،وقد انقسمت النخبة بل وعموم المتابعين للشأن الثقافي بين مؤيد لموقف الأمنيين باعتبار أن نصّ العبدلي قد بلغ شأوًا خطيرا من الضحالة والابتذال بل وخرق كل أبجديات الذوق السليم عدا عن القيم التي يفترض أن يشتغل عليها المسرح ،وبين رافض لتدخل الامنيين حتى مع التسليم بضحالة النص،بدعوى أن الفنان حرّ ولا رقابة عليه إلا من ضميره!وبذلك يعود الجدل القديم المتجدد وفي غياب أي رقابة قبليّة للاعمال المسرحية:ماهي حدود حريّة المسرحي؟وهو الذي يخاطب جمهورا عريضا يؤثر فيه ويتأثر به ،ولم غلبت الضحالة على أغلب النصوص المسرحية؟ولا ينكر لطفي العبدلّي في حوار مع احدى الاذاعات أن هدفه الوحيد هو اضحاك الجمهور لا أكثر ولا أقلّ وهو يقيس نجاح مسرحية بنجاحه "في التفرهيد على الجمهور"!
وهكذا يكاد يسلّم الجميع بأن رداءة المشهد الابداعي عموما والمسرحي خصوصا هو تيار جارف لا يمكن الوقوف ضده لعدة اعتبارات منها أن النص الجيد لا جمهور له،ويكون سببا لإفلاس المهرجانات،ومنها أن الهدف من العروض "المسرحية "في المهرجانات الصيفية هو الترفيه والاضحاك لا أكثر ،ومنها بالخصوص أن جمهور المهرجانات هو جمهور غير نخبوي وغير متطلب وغير معنيّ بجودة المحتوى ولذلك
ولأسباب أخرى مختلفة منها الفوضى العامة التي تسربت لكل شيء في غياب الدولة،تركت الساحة الثقافية لنفسها لتخضع بدورها لقوانين العرض والطلب،وليرتع فيها من هبّ ودبّ بدون رقيب وحسيب مع أن المسرح بالذات أخطر من أن يترك لشأنه نظرا لتأثيره المباشر والفوري على المواطنين ،هل يعني هذا أنني أطالب برقابة قبليّة لأي عمل مسرحي قبل عرضه ؟
الجواب بدون تردّد :نعم،يجب عرض اي عمل مسرحي على لجنة مستقلّة من الكفاءات المشهود لها لتنظر في النص ومدى استجابته للحدّ الادنى من شروط الكتابة المسرحية بعيدا عن الغلوّ والتطرف والابتذال و تدمير أسس العيش المشترك،هذا على المدى المنظور أمّا على المدى البعيد،فيجب إشراك المدرسة والجامعة في التأسيس لمسرح جادّ ومؤثر وقادر على الارتقاء الفعلي بذوق الناس ،من خلال تدريس مادة المسرح في الابتدائي ومضاعفة ضاربها في الاعدادي والتشجيع على ممارسة المسرح داخل الفضاءات المدرسية والجامعية ولم لا فتح المجال للقطاع الخاص لبناء مسارح في كل مكان،فتنتشي الحركة المسرحية ويعود الناس للمسرح بعد طول جفاء!
في كلّ الاحوال:الجميع مطالبون بالتحرك الفوري لإنقاذ ما يمكن انقاذه،ولم يعد مسموحا ان تترك الفضاءات المسرحية بيد قلة من المتمعّشين،الذين لا همّ لهم سوى الربح السريع ليساهموا في مزيد تدمير الذائقة العامة ونشر السطحية واليأس وتحدي القوانين والتشجيع على الكسل ونبذ الاجتهاد،اذ نحتاج في هذه الظروف الصعبة إلى نصوص تعيد لنا الثقة في انفسنا وترفع روحنا المعنوية المنهارة بسبب تتالي الخيبات في كلّ المجالات،نصوص ترسم لنا طريق الخلاص وتدفعنا الى تقديس قيم العمل والتضحية ،فهل تتلقف وزارة الثقافة هذا النداء أم تترك الحبل على الغارب،لنواصل التدحرج إلى الأسفل بدعوى أن الثورة قد قطعت مع الوصاية على الابداع وأن المبدع غدا حرّا طليقا يكتب ما يشاء ويمثل على المسرح ما يشاء،مع ان الحرية لا تعني الفوضى والاسفاف وتدمير أسس العيش المشترك!
في مسرحيته في صفاقس أشار العبدلي بإصبعه الوسطى في حركة مبتذلة وبذيئة جدا بإجماع كل التونسيين ،وذكر الرّئيس بالاسم وكل السلط الأخرى وقد أثار ذلك ضحك الجمهور الذي تشرّب النقمة على كل سلطة منذ الولادة،ولكنه أثار في نفس الوقت جانبا كبيرا من النخبة ومن القوى الحاملة للسلاح ،أثار النخبة لأنها أدركت عمق المستنقع الذي تردينا فيه في غياب نصوص مسرحية قيّمة،كما عمّق احساسها بالعجز عن التأثير في الواقع وفيها كتاب مرموقون ترقد مؤلفاتهم القيمة في رفوف المكتبات وقد علاها الغبار وكان يمكن لو تم استثمار تلك النصوص مسرحيا أو سينمائيا تغيير المعادلة تماما ،
وأثار القوى الامنية لأنها تعتبر ان الحركة التي أتاها لطفي العبدلي قد قوضت الاعتبار الرمزي لها،هي الموكول لها حفظ النظام والحرص على الانضباط،وقد انتصر الرئيس في لقائه بوزير الداخلية لحرية التعبير ،وهذا جيّد،ولكنه غير كاف،اذا كان عليه في نفس اليوم أن يستدعي وزيرة الثقافة وعدة نخب ليتحاور معها بخصوص مستقبل الثقافة في البلاد،ولكن الرئيس يعتقد ان المعالجة الامنية والقانونية كفيلة بإصلاح كل شيء،متناسيا أن العلاج "بالثقافة "هو وحده الكفيل بإصلاح بقية المجالات،ولعل في ردة فعل جمهور قرطاج حين غادر المسرح أثناء.
عرض مسرحية لمين النهدي بسبب ضحالة النص ورداءة العمل عموما بارقة أمل في عودة الوعي لجمهور المسرح،ولكنها تبقى حركة معزولة تستلزم هبّة عامّة تعيد للمسرح ريادته وللفن عموما اعتباره،واتساءل هنا عن سبب صمت اتحاد الكتاب،بل والكتاب عموما إضافة لصمت المسرحيين خصوصا وكل المثقفين إزاء التدمير الممنهج الذي يمارسه البعض في حقّ المسرح وفي حق الابداع عموما،وكأن الامر يحصل في كوكب آخر،وقد قرأت لبعض المحسوبين على الثقافة مقالات يهاجمون فيها موقف النقابات الامنية او يدافعون عنها،في حين يتغاضون عن ضحالة النص ! إنه النفاق ،النفاق الذي سيخرب كل شيء جميل في هذا الوطن.