1-هو شأن المشائية العربية، يبدو واحدا، ولكنه يكفُّ عن أن يكون عقلا واحدا في مجالات أخرى، بل يصير عقولا لا عد لها ولا حصر: تعقل المكسيكي (التدبير) ليس هو نفسه تعقل النيويوركي ومعقولياته اللهم بالإيهام والتوهم.
2- في بلادنا خصوصا، وفي منطقتنا الثقافية عموما لا يزال "لا وعينا" (وهو بنية عقلنا مستبطنا في دواخلنا ومقلوبا) مسكونا بـ"عقل" جيل فيري Jules Ferry التحضيري والتربوي، أي مسكونا بأهوائه وخياراته العملية (التعقلية): له طاقة الانفعال ولنا الاعتدال. وما يزال شبح "التنوير" الأوروبي المركزي يطارد بعضا من نخبنا مثلما يطارد شبح والد هملت في مسرحية شكسبير. هكذا هي القوة الفيزيائية المحضة تتقنّع بعلامة الحكمة العملية: الاعتدال المطلوب منا، في حالات الأزمة كالتي نعيشها اليوم، يعطي ما نتنازل عنه من حق أو من شعور بالظلم إلى الطرف المقابل الذي يحوله إلى طاقة تزيد في قوته، مثلما يقول الشابي في رائعته الشعرية الرمزية "فلسفة الثعبان المقدس"(*)، ولكَم تصدق اليوم هذه الفلسفة على مقاصد الأقوى.
3- لن تعتدل إسرائيل أبدا حتى ولو خسرت معركة أو معارك. ولماذا؟ لأن ذلك يعني نهايتها في رأيها هي نفسها بغض النظر عن رأينا نحن. إسرائيل هي الدولة الوحيدة، في تاريخ الدول ممّا أعرف، تستشعر نهاية وجودها حتى في حركة فراشة غريبة عنها أو في إنشاد بلبل لم تعهده من قبل.
إنها لا تدافع عن حدود أو سيادة أو مطاولة كغيرها من الدول، وإنما عن مجرد وجودها، لأنها تشك فيه من وراء خيلاء يقينها الذاتي، فلا تتغلب عن شكها في نفسها إلا بمزيد صمّ أذنيها والتوسع باستمرار وصناعة "غيتوات" Ghettos خاصة بالفلسطينيين لإجبارهم إما على التسليم بالذل وبالعيش بلا حقوق أو مغادرة أرضهم.
وهذا الاستبطان الاستيطاني الدائم هو على الأرجح الحكمة العملية الوحيدة التي تملكها. وبالمقابل فإن فلسطينيو اليوم لا يقبلون لا بالبديل الأول (سلب الحقوق) ولا بالثاني (التهجير). الغيتوات والجدران العازلة، وهي سجن الفلسطينيين، هي أيضا عزل لإسرائيل عن محيطها. فكيف التعقل في طريق مسدودة نهائيا؟
كيف نكلم بروية العقل والتعقلية جدارا اسمنتيا عازلا. لكن للطبيعة قانونها: وهو انكماش اسرائيل جسدا وروحا، وهو ما سينسف بطول الوقت العقيدة التي تقوم عليها (أنصح القراء منكم بكتاب "الدولة اليهودية ضد لليهود" الذي صدر قبل 3 سنوات في فرنسا، وكاتبه هو رئيس تحرير جريدة" لوموند" المعتدلة!!). إن الغضب نتيجة شعور بالظلم، فليس من طبع الحيوان أن يغضب لأنه لا يشعر بالظلم حتى ولو استشعر الألم والأعتداء، بل الغضب من طبع الإنسان وحده. ولذا فمن لا يغضب ولا ينفعل ليس بإنسان، كما ترى ذلك المنظرة اليهودية الكبيرة في السياسة حنة آرندت.
4- إن اسم "جيل فيري"، وهو صاحب آراء تربوية حضارية متطرفة، ما يزال إلى اليوم، مثل الرمز، منقوشا على لوحة أحد شوارع مدينة بنزرت بالقرب من الميناء (كان شارع بورقيبة بالعاصمة يحمل اسمه)، ما يعني أن معركة الجلاء التي أجْلَت الأحذية العسكرية الفرنسية لم تُجْلِ "عقل" المستعمِر من ثقافتنا ومن رؤيتنا للعالم.
وقد لخص الشابي تلك الثقافة والرؤية في القصيد المذكور. لذا يجب، كما قال أحدهم، تخليص العقل والذهن والمتخيَّل الرمزي من ترسبات الثقافة الكولونيالية وما بعدها: عملية صعبة جدا وطويلة الأمد، ولكنها لازمة. ومما جاء في "فلسفة الثعبان المقدس" هذان البيتان، وفيهما يتوجه الثعبان صاحب الحكمة العملية إلى الشحرور الشادي على الأغصان فيقول:
"أفلا يسرُّكَ أن تكون ضحيَّتي / فتحُلَّ في لحمي وفي أعصابي
وتكون عزماً في دمي، وتوهَّجاً / في ناظريَّ، وحدَّةً في نابي"
ملاحظة: كتبت قبل 10 سنوات في هذا الموضوع تحديدا دراسة "نخبوية" جدا بعنوان "العدالة في وضع استثنائي". فلا علاقة لرأيي هذا بالشعبوية. ولا أيضا بالموقف الرسمي مع كونه جيدا في هذه القضية بالذات (الأخلاق هي الملاذ الأخير... وإلا كيف؟).