غزّة هي "هولوكوست" كل الهولوكوستات ولو كره الكارهون؛ وكما يقول التوانسة: "اللي عنده ريح يذري عشرة". "الهو..لوكوست" الألماني النازي الفظيع كان مجرد تـــمــريـــن مقارنة بمحرقة غزة التي تطال كل الموجودات: الحي والجامد، الإنساني وغير الإنساني، العضوي وغير العضوي.
ولكن كل حدث عظيم هو مطلق إفراد: هولوكوست النازية لوحده. وهولوكوست الصهيونية لوحده. المقارنة بينهما لا تقوم إذن. ولكن ما عسانا نفعل عندما يقلب الرأي العام الغرب-صهيوني الحدثَ المفرد إلى واحد أحد، إلى وحدانية هولوكوستية ليس من الممكن معاودتها. هنا تصبح مقارنتي جائزة عقليا وأخلاقيا لتفكيك الاستفراد بالاختلاف وبالميز وبالاضطهاد. إنه عبث الضحية-الجلاد: الشر اللاحق باليهود هو من "طبيعة" خاصة، ومن "جوهر" لا يلحق بغيرهم من سائر البشر والأمم.
الحديث ذو شجون: في أوشفيتس مات الوالدان اليهوديان لأكبر أساتذتي وأعزهم وأقربهم إليّ صداقةً وهو الراحل أوليفييه بلوخ، وقد كتبت في ذلك نصا أدبيا تأبينيا مطولا ومنشورا في فرنسا بمناسبة وفاته عام 2021. كان نصيرا للفلسطينيين ومعارضا للاحتلال.
حرب الإبادة وموقف المنزلة بين المنزلتين
فضلا عن القوى والأوساط الغربية والمستغربة الداعمة لحرب الإبادة على غزة، فإن كل شاهد على ما يحدث، ومهما كان موضعه الجغرافي، وموقعه الاجتماعي، وثقافته ومعتقده، ولون بشرته، يلوذ بالصمت ويتحصن بالتقية ويتعوّذ باللّامبالاة، يكون في موقف النصير السلبي لتلك الحرب، أي في موقف "مرتكب الصغائر"، بلغة المتكلمين القدامى. ولماذا؟
لأن المنهجية القصويّة والفزيائية المحض التي تتوخاها آلة الحرب الإسرائيلية لا تترك مجالا ولو صغيرا للشك والتردد.
إنه اليقين الأكبر: في سكان غزة يتبلور ويتكلس عداء دولة "شعب الله المختار" لـــــســــائـــــــر "الأمم" الأخرى. في هذه النقطة ينصهر تماما وجها العملة الواحدة: الصهيونية (العلمانية) والأصولية اليهودية (الدين). لا منزلة إذن بين المنزلتين.
الاستفراد بغزة
ألا نرى أن الدعوة إلى عدم توسيع نطاق الحرب لا تعني شيئا آخر سوى الاستفراد بغزة لمحوها من الوجود قتلا وحرقا وتعذيبا للخدج وإيغالا في اغتيال الأطفال والنساء، وبث الرعب في شعوب المنطقة إيحاءً لها بأن مصيرها سيكون كمصير غزة إذا لم تستكن ذليلةً إلى حضائرها كالمواشي المدجنة؟
وليس الجواب في ما لم تتدخل بالقوة البلدان العربية المجاورة لفلسطين المحتلة على الأقل، ضد الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتهجير القسري لمن بقي حيا من سكان غزة، ودفاعا عن حق الشعب الفلسطيني في الوجود والحياة والكرامة والاستقلال، فوجود جيوشها لم يعد له من معنى اللهم أن يقمع في الداخل أو أن يبرع في خوض نزاعات جانبية مع جيرانه العرب والأفارقة والمسلمين.
وكل من يتصرف بهذه الطريقة ليس بدولة، بل مجرد "إيالة" أو ولاية تابعة للإمبراطورية الأمريكية أدنى تطورا حتى من التنظيم القبلي، وجبنها مخالف حتى للحمية القبلية أو الطائفية التي تشكل أصلا من أصول تكوينها. نعم أو لا، بل في نصرة غزة قبل فوات الأوان.