إن قوة إمبراطورية كبرى، مثل أمريكا، قامت على الاستعمار، وعلى الإبادة الجماعية لسكان أمريكا الأصليين، والتي كتبت دستورها على جلود ضحاياها، وافتتحت قيمها الحداثية باسترداد نظام الرّق - الذي كانت من قَبْلُ قد ألغته المسيحية الوسيطة في الغرب بفضل انتصار شعوب البرابرة على روما الاسترقاقية!
لا يمكنها إلا أن تبارك الإبادة الجماعية التي تمارسها دولة إسرائيل في غزة. لم تقل أمريكا لإسرائيل ولو مرة واحدة: "توقفي عن الإبادة، عن العقاب الجماعي، عن قتل المدنيين، عن استخدام الأسلحة المحضورة"، بل رددت عبارات التمني بأن تقلل من الضحايا المدنيين في حدود المستطاع!
ولذا فإن عبارات التلطيف هي طريقة أمريكية خاصة في التوقيع على صكّ أبيض تعمره إسرائيل حسب هواها في حربها المبيدة ضد غزة؛ وهي عبارات يجب ترجمتها إلى مقاصدها الحقيقية: أفعلوا ما يلزم في حربكم التي هي حربنا. كما أن تلك العبارات تجد ترجمتها الفعلية في استخدام الفيتو ضد أي هدنة إنسانية، ولكنها تترك أيضا الباب نصف مفتوح لتعديل الموقف إذا دارت الحرب على إسرائيل نهائيا... أما الآن فلا همّ لبايدن إلا المزايدة على الجمهوريين في دفاعهم التوراتي عن إسرائيل.
وكنت قبل سنوات قد توقعت مثل هذه المواقف المشينة من قِبَل الحزب الديمقراطي عندما كتبت بالحرف، يوم فوز بايدن في الانتخابات، بأنه جاء ليقرع طبول الحرب! فكانت الحرب في أوكرانيا وكانت الحرب على غزة... وهكذا تنغلق الدائرة، ويعود الحزب الديمقراطي إلى مهد نشأته الأولى: حزب من المحافظين ومن الرجعيين الذين عارضوا بقوة تحرير العبيد ووقفوا في معسكر الاسترقاقيين خلال الحرب الأهلية في ستينات القرن التاسع عشر.
هذا إرث كبير قد يغفو قليلا ولكنه لا يلبث أن يصحو في الأزمات المصيرية الكبرى. ولذا، فلا معنى ليسار داخل الحزب الديمقراطي، فحتى السيناتور ساندرز ألزم نفسه بحدود لا يتخطاها، بل إنه تراجع عن مواقفه السابقة الناقدة لإسرائيل.
أما موقفه الأخلاقوي والإنساني إزاء قتل أطفال غزة فلا يزيد عن موقف اليونيسيف والجمعيات الإنسانية الدولية. وإذا كان الموقف الإنساني مشرفا لتلك المنظمات بحكم طبيعتها، فإنه يعود بالخزي والعار على زعيم سياسي مثل ساندرز ينضوي تحت لواء الاشتراكية الديمقراطية التي لها معنى خاص في أمريكا مختلف عن معناها البائس في أوروبا اليوم.