عادة ما تطرح الأحزاب مشاريع ورؤى للمستقبل .. ولكنّ الغالب على وعي عامة الناس أنه لا يرقى إلى ذلك الأفق.. ومن هنا يأتي دور رجال السياسة النبيل : الرفع من مستوى الوعي كي يُحسن المواطن الاختيار..
بهذا المعنى السياسي هو مناضل ، غير أن النضال يفترض جهدا ، ونفَسا طويلا .. وعلى السياسي أن يعتصم بصبر فلاح ، في انتظار موسم الحصاد …
في بلدنا الميمون ، لم يعد هذا النضال مواكبا للعصر .. وكان على النخبة السياسية أن تبتدع أسلوبا جديدا ، فذّا ومبتكرا ... وكذا فعلت !. لقد أدركت ، بحكمتها الفريدة ، أنّ أكثر الأشياء عدلا بين الناس هي صفة الغباء ! .. وأنه ينبت طبيعيا في منابت الجهل .. وما أكثرها …
فلم علينا أن نتكبّد عناء محاربة الغباء ، وفي وِسْعِنا الاستفادة منه ؟ لم الاستثمار المُكلف في الوعي ، ومن السهولة بمكان الاستثمار في غيابه ؟ .. وهكذا تحوّلت طبقتنا السياسية من النضال إلى الاستثمار... وبالطبع كان عليها أن تعيد النظر أيضا في البرامج حتى تناسب مقدار الجهل لدينا ، والمنسوب المتاح من الغباء ! …
تُقام ثورة على نظام قديم ، فيسارع هذا النظام إلى الاستثمار الأمثل للغباء التونسي ، ويعود إلى الحكم وبين يديه " شرعية انتخابية " لم يحلم يوما بها ..
تنشأ أحزاب وزعامات كالفطر ، ويصل بعضها إلى سدّة الحكم ، وليس لها من زاد في النضال سوى بيع الأوهام لشعب تنطلي عليه كل حيلة .. حتى حيلة شراء الأهرام ! .. تُنْكب البلاد بسلطة ، في عهدها مات الحرث وجاع النّسل .. ومع ذلك تُسارع العامة إلى الصناديق لإعادة الانتخاب ! ..
تتدحرج الطبقة الشغيلة إلى الهاوية المُرعبة في كل عام .. وتأبى مع ذلك إلا أن تعيد نفس الاختيار ، وتنتخب نفس الوجوه البيروقراطية ، ونفس الرعاة الذين أدخلوا الذئب إلى الزريبة في وضح النهار !..
ينهض مُدَّع ظلوم ليقول : أنا الواحد الأحد .. فينصرف الجميع عن آلهتهم ويخِرُّون سُجّدا وركوعا تحت أقدام هُبل !
إن المرشح الذي يقدم برنامجا انتخابيا للتشريعيات أثناء تقدمه للرئاسيات هو مستثمر
يراهن على رواج بضاعته المغشوشة لدى الرأي العام ، مستقويا عليه بهرسلة مدفوعة من قبل وسائل الإعلام. وإن المرشح الذي يعد بإدخال البحر إلى منطقة الجريد ، أو بناء جسر يصل صقلية بباب الجديد هو مرشح له في مخزون الشعب من البلاهة ثقة عمياء وإن بالغ قليلا في تقديراحتياطيه من الغباء .
وإن المرشح الذي لا يجد حرجا في إعلان تبعيته لبن علي ، ويتعهد بإرجاعه وأركان نظامه إلى المشهد السياسي ، يراهن ليس على قصر ذاكرة الشعب فحسب ، بل على فقدانها منذ وقت طويل .
وإن المرشح الذي يقرر خلع كل دعامة حزبية ترفده ثم يعلن عن نفسه بعد ضمان تزكية الزوجة والأبناء هو مرشح يراهن على غبائه الذاتي باعتباره جزء مطلوبا في خصال الرؤساء . وفي الواقع ، لا يقتصر نشاط سياسيينا على استثمار الغباء أو مشتقاته .. ولكنهم قد يتاجرون بصفة ثانوية في الهوية المحافظة والمنفتحة ، وفي الارهاب المستورد والمحلي ، وفي الأجساد الأنثوية ، عارية ومحجبة ... وفي كل الأشياء التونسية ذات الاستعمال المزدوج ! ..
إنها الحوكمة الرشيدة يا مولاي ، والتصرف المحكم في مخزون الشعب من الغباء .. مع الحرص على تنميته ، وزرع كل أرض بور من أجل استدامته! .. هذا هو معنى عبارة التجربة التونسية الفريدة ! ..
الغباء أفيون الشعوب بلا مراء.. والسياسي ليس سوى تاجر أفيون بلا ضمير .. !