أتابع باستغراب شديد وبدهشة بالغة تصريحات بعض القيادات السياسية التونسية بشأن تحديات الوضع الداخلي وعلاقات تونس الخارجية. ان ما يثير الدهشة والاستغراب وأحيانا يبعث شعورا بخيبة الأمل، هو جنوح بعضهم إلى تحميل مسؤولية عجزهم عن إدارة المرحلة الحالية إلى حكومة الترويكا في قضايا ثابتة ليس فقط بحكم منطق الثورة وإنما بمنطق القانون الدولي ومواثيق حقوق الإنسان، كما هو الشأن في الموقف من سورية ومصر .
وقد نفهم الحرج الذي هم عليه والإخفاقات المتتالية على الصعيدين الداخلي والخارجي بدءا بالجوار ليبيا والجزائر وصولا الى التخلي شبه الكامل عن المطالبة باسترجاع الاموال المهربة للخارج والعجز عن الإيفاء بالالتزامات الدولية والفشل الذريع في معالجة الاوضاع الأمنية والاقتصادية والاجتماعية.
استمعت الى بعض التصريحات من مسئولين في الحزب الحاكم والدولة وهي تبين حجم الضحالة التي وصلنا اليها ولست أدري ان كان ذلك ناتجا عن جهل بالمعطيات أم عن سوء نية في محاولة من أصحابها لتشويه أداء القيادات التي أشرفت على المرحلة الانتقالية وبالأساس الدكتور محمد منصف المرزوقي. تصريحات لا تنم عن أي شعور بالمسؤولية وتبين القصور في فهم للتحديات الداخلية والخارجية. وأضع بين يدي المطلعين بعض الحقائق لعل القوم يراجعون أنفسهم ويعدلوا عن مثل هذه التصريحات المشينة مستقبلا خاصة ونحن نتحدث عن الوطنية والمواقف المبدئية والأخلاقية.
وقد نسي البعض ماضيه بسرعة ويحاول تجاوز الولاءات التي أوصلته إلى المكان الذي هو فيه. إن هؤلاء ومن يحرضهم هم أكبر خطر على الاستقرار والعائق الاكبر امام التنمية والديمقراطية والحريات ولن تنجح مخططاتهم بإفشال التجارب الديمقراطية طالما بقي الشعب متيقظا رغم حرصه على مواراة سوآتهم أمام العالم حفاظا على سمعة البلاد وتاريخ هذا الشعب وحضارته.
ولكن إن تتم التغطية على الإخفاقات المتتالية للحكومة الحالية والهروب من الالتزامات لربط الفشل الحالي بخيارات تمت في فترة حكم الترويكا فهذا ما لا يمكن استيعابه وينم عن قصور كبير في الفهم وبمقتضيات تسيير أمور البلاد.
ففي الملف السوري، بلادنا ملزمة أخلاقيا وقانونيا بتوفير الحماية للمدنيين الفارين من الحروب ولابد من قبول أعداد من اللاجئين السوريين توقيع بلادنا على اتفاقات دولية منها اتفاقيات جنيف الرابعة.
وإن الإصرار على الترديد بأن الرئيس المنصف المرزوقي يتحمل مسؤولية قطع العلاقات مع سوريا أمر غير دقيق ويحسب للرئيس المرزوقي أنه أمر بسحب السفير في فيفري 2012 احتجاجا على فظاعة الجرائم التي ارتكبها النظام السوري بحق شعبه والآن يستعد هذا النظام لوضع ما تبقى من الأراضي السورية الخاضعة لسيطرة قواته – أي خمس المساحة الجملية للبلاد تحت الحماية المباشرة لروسيا وإيران وبتنسيق معلن مع الاسرائيليين بحسب الإدارة الروسية.
وإنه من المعيب المزايدة على الموقف الذي قاده الرئيس المنصف المرزوقي بممارسة صلاحياته في مجال العلاقات الخارجية وعلى الذين يضللون الرأي العام من غير حجة ولا دليل ومن غير أن تكون لديهم البدائل السياسية الواقعية للتعامل مع هذا الملف الدامي الذي لا يزال يؤرق ليس سوريا والعالم العربي والإسلامي وحده، وإنما أصحاب الضمائر الحرة في كل أنحاء العالم - عليهم اتخاذ قرارات سياسية مغايرة والحال أن حلفاؤهم وأنصارهم من العرب وغير العرب أقدموا على خطوة قطع علاقاتهم مع النظام السوري بعد الخطوة التونسية.
نعم نظمنا مؤتمر أصدقاء سوريا ولكننا رفضنا تسليح المعارضة حينها ودفعنا ثمن هذه المواقف.
نعم اعترفنا بالإتلاف السوري كممثل للشعب ولكننا جددنا رفضنا للتدخل الخارجي في سوريا.
نعم دافعنا عن حق الشعب في الحرية. و كنا ندعم المبادرات في اتجاه مخرج سياسي لا عسكري.
نعم نددنا بممارسات النظام الوحشية ولكننا رفضنا أن يتم الالتفاف على حقوق الشعب عبر التدخلات الخارجية ودعم الجماعات المشبوهة.
ولقد سعينا منذ 2012 إلى إيجاد حلول لبعض المئات من اللاجئين السوريين في تونس وخاصة في ما يخص الإقامة المؤقتة وإيواء العائلات وعلاج المرضى وتدريس الأطفال وكل هذا بالتعاون مع الوزارات المعنية.
وأما في الملف المصري، فاني أرى في زيارة رئيس الجمهورية لمصر هذا الأسبوع، نظرا للعلاقة المتميزة لعبد الفتاح السيسي بالعائلة المالكة في الامارات وكذلك باللواء خليفة حفتر وإسرائيل، فرصة للطلب من الاماراتيين تفهم الوضع الجديد في تونس وعدم خلط الأمور السياسية بالقضائية عند التعاطي مع البلدان التي تحترم مؤسساتها وللطلب من الإسرائيليين التوقف عن الاستيطان وتهويد القدس وإيقاف العصابات الصهيونية المتمردة.
فبلادنا لم تتدخل يوما في الشأن الداخلي الاماراتي ودعمت هذا البلد ليتمكن من استرجاع أراضيه التي لازالت تحتلها ايران فضلا عن ملفات أخرى (يقع تفصيل الدور الاماراتي في مقال مستقل ينشر لاحقا) وبالتالي من المهم أن يطلب احترام ارادة شعبنا وديمقراطيتنا.
فالسلطات القضائية التونسية فتحت قضية لدى مكتب التحقيق السادس وهي تتعلق بمشروع "سما دبي" بالبحيرة والقضية مسجلة تحت عدد 21083.
ولكن لم تصدر الى حد الآن بطاقة جلب دولية باسم حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل المكتوم رغم ما شاب هذا الملف من تجاوزات سيكشف عنها البحث.
وأعتقد ان الرئيس الباجي قائد السبسي له قبول لدى الرئاسة المصرية الحالية ويمكنه المطالبة بإطلاق سراح مرسي ورفاقه من المعتقلين خاصة بعدما تمت تبرئة حماس من تهمة الارهاب وهي التي تنتمي فكريا لجماعة الأخوان المسلمين فلا يعقل أن يبرأ القضاء حماس ويواصل اتهام الإخوان بنفس التهم ويصدر أحكام الإعدامات الجماعية بشكل يسئ لسمعة مصر والعرب جميعا. وأعتقد انه يمكن عرض دور لتونس للبدء في مسار سياسي في مصر على أسس سليمة لا تستثني أحدا.
ويدرك السيد الباجي قائد السبسي أيضا أهمية الملف الفلسطيني لدى التونسيين جميعا وهو ينتظر بلا شك اعلانا مصريا يعقب الزيارة يعلن فيه عن فتح معبر رفح ومساعدة الحكومة والمؤسسات الفلسطينية للقيام بدورها في القطاع المحاصر.
وللتذكير وعلى عكس ما يروج له الفاشلون فان بلادنا مثل معظم بلدان العالم لم تعترف بالانقلاب العسكري في مصر وساندت تجميد عضوية مصر في الاتحاد الدولي للبرلمانيين، وطالبت بإطلاق سراح مرسي ورفاقه من المعتقلين، وساعدت عشرات الآلاف من المصريين الذين غادروا ليبيا وساندت ترشيحات مصرية في المنتظم الدولي ولم نعامل المصريين بالمثل حين غادر السفير البلاد وتهجمت آلة الحرب الإعلامية المصرية على بلادنا والرئيس المرزوقي حينها.
وأما الرسالة التي يجب أن تصل للجميع في الموضوع الليبى فهو أن تونس – مثلها مثل الجزائر- لن تقبل بتدخل خارجي في هذا البلد وتظل على ذمة الأشقاء الليبيين لأن الوضع هناك هو جزء من الوضع الداخلي التونسي أمنيا واقتصاديا واجتماعيا.
وفي الختام
حذاري من السقوط في ردود الأفعال وحذاري من الذهاب الى وجهات مجهولة . فالفطن هو الذي لا يلعن المستقبل. ومستقبلنا مع شعوبنا وتمسكنا بمبادئنا دون السقوط في الشعبوية والمجازفة الخطيرة.
وإن من شجع على الحرب الأهلية في سوريا وعلى الوضع الحالي في مصر هم انفسهم الذين وقفوا وبقوة ضد الربيع العربي وهم من مولوا الثورة المضادة وهم من اشعلوا الفتن في أماكن عدة وهم من زوروا ارادة الشعوب عبر المال السياسي الفاسد وعبر شراء ذمم اعلاميين وقضاة وأمنيين ونقابيين لتسميم الأجواء والانقلاب على ارادة الناس (انقلاب دموي في مصري وانقلاب عبر الصندوق في تونس وتشويه المقاومة في سورية والثوار في ليبيا).
وهم أنفسهم من مول وسلح الجماعات الإرهابية في سوريا وهم نفسهم من سعى لخراب ليبيا ومازالوا يسعون للتخريب والدمار في تركيا وغيرها من البلدان التي تعرف الاستقرار وأصبح للمواطن فيها صوت مسموع.
وما لا يدركه البعض هو انه يتم استعمالهم كأبواق ويتم التخلي عنهم حال وجود وسيلة أخرى لإيصال الصوت غير البوق. وإن مؤجريهم في ورطة وهم يعانون على مستويات عدة وأكتفي بهذا في الوقت الحالي ولعلي أجد نفسي مضطرا للتوضيح أكثر في المستقبل.