الجهاد الأكبر الذي يعيشه الفلسطينيون كل يوم، كثير من تفاصيله مغيبة عن الاعلام ويجهلها حتى من يرفعون شعارات النصرة للقضية الفلسطينية:
1- كثير من الطرقات الرابطة بين مدن الضفة القريبة، ترصدها دوريات من الجيش الاسرائيلي، ولا يسمح فيها للعربات الفلسطينية الا بالسير دون توقف، ولو لأمر طارئ. لو حدث ان تعطبت عربة فلسطينية، فواجب على من فيها ان يقبعوا داخلها ويشغلوا الاضواء الرفافة ويطلبوا الشرطة الإسرائيلية كي تحضر وتبحث في السبب... الخروج من العربة يعتبر محظورا ونتيجته اطلاق الرصاص فورا من القناصة الاسرائيليين.
2- نسمع كثيرا ان المحاكم الإسرائيلية اصدرت حكما على مناضلين فلسطينيين بالسجن المؤبد مرتين او ثلاث مرات او اربع. ما الفرق بين المؤبد مرة واحدة والمؤبد لأكثر من مرة؟ ستصدم حينما تسمع السبب المغيب في وسائل الإعلام.
المسجون مؤبدا، يبقى في السجن الى ان يتوفى،عندها يتم الاتصال بعائلته لتسلم جثمانه ودفنه. المحكوم بالمؤبد مرتين، يوم يموت، لا حق لأهله في تسلم جثمانه، بل يتم الاحتفاظ به من سلطات الاحتلال العنصري في مقبرة خاصة بالسجن تسمى "مقبرة الارقام" ويسلمون لأهله رقما، على أن يحق لهم تسلم رفاته بعد قضاء فترة بعدد السنين التي عاشها فعلا، فإن كان توفي عن سن ستين عاما ينتظرون ستين عاما اخرى كي يتسلموا رفاته، وهكذا بالنسبة إلى من حكم بالمؤبد اربع مرات، يأتي أحفاد احفادهم بعد 240 عاما لتسلم الرفات… انها بدعة قضائية ابشع من حكم الإعدام وهو ان تحكم على الجثث ايضا بالسجن… كم من منتدى حقوقي عالمي ناقش هذه الكارثة التي لم يسبق اليها احد من العالمين!؟
3- منذ الخمسينات تم إلزام بعض المتساكنين في الضفة بعدم القدرة على التوسع العمراني والا يتم تهجيرهم من كامل فلسطين، النتيجة ان العائلات التي كانت تقيم فوق رقعة جغرافية في الخمسينات تضاعفت اعدادها عشرات المرات، ولكنها بقيت محشورة في رقعة ترابية ضيقة. من أمثال ذلك مخيم الامعري في رام الله، عنوان للصمود الشامخ والتضحية الفلسطينية التي يقابلها ظلم صارخ من الاحتلال، عائلات لها من الامكانيات المالية ما يجعلها تعيش في قصور شامخة خارج فلسطين، ولكنها من اجل مبدا البقاء متجذرة في تراب فلسطين أبت الضيم ورفضت الخروج من حيها ورضيت بأن تبني داخل تلك الرقعة التربية الضيقة لتوفير سكن الاجيال المتعاقبة…
النتيجة اليوم انك لو طفت في ارجاء مخيم الامعري برام الله مثلا فستصدم بالمسالك الضيقة التي تفصل بين المباني والتي يكاد بعضها لا يسع لمرور شخص واحد الا بصعوبة. الله سبحانه وتعالى يعلم وحده كيف يتدبر هؤلاء الابطال شؤون حياتهم لتجهيز مبانيهم بالمرافق الضرورية من كهرباء وماء وصرف صحي … ولكنهم صامدون … كل شيء يهون من اجل فلسطين… هذه هي التضحية الحقيقية التي تعجز العقول عن تصورها …
4- في القدس العربية يتم توظيف ضرائب مجحفة على التجار العرب في الأسواق القريبة من بيت المقدس كي يرغموهم على هجر محلاتهم، ولكنهم يتشبثون بالبقاء ومباشرة تجارتهم يوميا رغم انهم يخسرون ماليا، فيتضامنون فيما بينهم لدفع الضرائب مكرهين، ويبقون في محلاتهم شامخين، يُشهدون العالم على فضاعة الظلم الذي يعيشونه.
5- في عديد من الأحياء السكانية بالقدس والخليل يتم حظر إسناد اي تراخيص بلدية لتحسين المساكن او ترميمها او اعادة بنائها، حتى إذا ما انهار المسكن بسبب القدم اضطر متساكنوه لمغادرة الحي واصبحوا لاجئين…
6- الأحياء السكانية في الضفة الغربية قريبة من بعضها ولكن ليس مخولا للسكان الفلسطينيين التنقل عبر تلك الأحياء بحرية، وبعضهم ممنوع من مغادرة مدينته مطلقا … هناك فلسطينيون برام الله لم يشاهدوا البحر طوال حياتهم رغم ان الساحل البحري لا يبعد سوى اربعين كيلومترا. كما ان التنقل داخل بعض المدن نفسها مثل مدينة القدس، يتم عبر بوابات يتحكم في مواعيد فتحها جيش الاحتلال.
7- مسجد الخليل من التراث الإسلامي التاريخي العريق ويؤمه المسلمون بانتظام، بعد المجزرة التي ارتكبها مستوطن صهيوني في المسجد وقتل عشرات المصلين العزل، قامت سلطات الاحتلال بإقامة جدار عازل من الحديد على جزء من المسجد والساحة التابعة له وجعلته تحت سلطة مباشرة من الجيش الاسرائيلي لحماية المستوطنين الذين يباشرون طقوسهم الدينية حذوه…
لكن عملية تقسيم المسجد جعلت المئذنة التي يقام منها آذان الصلاة تقع في الجزء الخاضع لسلطة الجيش، ونتيجة لذلك فكلما يحين موعد الاذان يتعين على المؤذن ان يطرق البوابة الحديدية وينتظر الإشارة من جنود الاحتلال ليفتحوا له الباب ويصعد للمئذنة لبث الاذان، العملية تخضع لمزاج الجندي فأحيانا يفتح له الباب دون تعنت، ولكن في احيان اخرى يتعسف في ذلك ويرفض فتح الباب دون سبب ويفوت وقت الاذان.
هذه عينة من كفاح يباشره الفلسطينيون ببسالة وشرف وعزة نفس وسط تعتيم اعلامي عالمي ومتاجرة خسيسة بالقضية الفلسطينية من قبل اطراف عربية سياسية توظف تلك القضية للمزايدة الكلامية الفارغة وتعزيز مراكزهم السياسية في بلدانهم.
النصر لن يصنعه الا الفلسطينيون فهم اهل الكفاح الحقيقي.. بقية العرب، السياسيون منهم والنخب، ليسوا سوى متحيلين اضروا بالحق الفلسطيني اكثر مما نفعوه.
رغم ان العرب لم يبق في جعبتهم من سلاح سوى بلاغات التنديد والشجب فلكم ان تتصوروا للحظة وقعَ بيان شديد اللهجة يكون مساندا للفلسطينيين تمضيه كل الاحزاب التونسية والمنظمات الوطنية والهياكل المهنية…. ألم يقولوا ان القضية الفلسطينية تجمعنا ولا يمكن توظيفها في خلافاتنا السياسية ابدا!؟
هل يجرؤون على ان يفكروا فيها مجرد التفكير!؟ حتما سيتراشقون بالسباب والشتائم وعبارات التخوين وسيستنكفون من مجرد وضع أسمائهم مع بعضهم البعض.. لذلك فطالما هم عاجزون عن تحقيق هذا الامر البسيط ذي الدلالات العميقة … فهم ابعد ما يكون عن الصدق في نصرة القضية الفلسطينية.
العداء المستفحل بيننا هو الذي يؤبد تخلفنا وضعفنا وهواننا بينما العدو المحتل الغاشم، وان بدت خلافات في صفوفه، فإن القضايا التي تجمع بين افراده وجماعاته كبيرة ومتينة ولذلك فهم ينتصرون.
وسيعلم الذين ظلموا اي منقلب ينقلبون.