احدى اكبر المسائل المثيرة في تقرير تفقدية وزارة العدل ضد البشير العكرمي، مسألة المسدسين اللذين نسبت ابحاث مجراة في قضية تحقيقية اخرى (يختص بالتحقيق فيها قاض اخر: السيد ج.ب.) أنه تم اخفاؤهما من قبل المدعو ع.ب. وتضيف الأبحاث انه القى بهما في البحر من شاطئ في الأحواز الجنوبية للعاصمة، وقد تكثفت الأبحاث بالاستعانة بغواصين محترفين سعيا للعثور عليهما لكن دون جدوى. هذه الأبحاث يفترض انها جرت في نهاية عام 2013 ضمن قضية تحقيقية تخص عناصر ارهابية تنتمي الى جماعة متشددة وارهابية، وكانت تلك القضية من أنظار قاضي تحقيق اخر (ج.ب.) وقد ختم فيها البحث في ديسمبر 2013 اي قبل ان يختم العكرمي البحث في قضية اغتيال الشهيد شكري بلعيد بقرابة الستة اشهر.
ما علاقة العكرمي بهذه الأحداث التي لم تكن تتبع القضية التي يحقق فيها؟
الجواب بسيط، فطالما ان المسألة تتعلق بالمسدس المستعمل في جريمة اغتيال الشهيد بلعيد - رحمه الله - وجب على العكرمي المختص بالتحقيق في تلك الجريمة الإرهابية، ان يطلع على أوراق البحث في القضية الأخرى لدى زميله ج.ب. وان يرتب الاثر القانوني على ذلك ... وبما ان قرار ختم البحث الذي اعده العكرمي، والذي ناهز الخمسمائة صفحة، لم يتعرّض الى حكاية المسدس الذي اخفاه المدعو ع.ب. ولم يتمّ توجيه التهمة له والتحقيق معه لمحاولة الكشف ربما عن جوانب اخرى خفية في القضية، فضلا عن السعي الى العثور على المسدس أداة الجريمة، فقد اعتبر المتفقد العام أن قاضي التحقيق البشير العكرمي يكون قد ارتكب عملا موجبا للتتبّع لإخلاله الكبير بواجب التحقيق لكشف ملابسات الجريمة.
لكن مهلا!!! الأبحاث لدى القاضي ج.ب. تشير الى إخفاء المدعو ع.ب. لمسدسين وليس مسدسا واحدا، الاول المستعمل لاغتيال الشهيد بلعيد والثاني المستعمل لاغتيال الشهيد محمد البراهمي. قضية الشهيد البراهمي ليست من أنظار البشير العكرمي في التحقيق 13، بل من أنظار القاضي الفاضل محمد المالكي في التحقيق 12، فهل اطلع هذا القاضي (التحقيق 12) على أوراق البحث من زميله القاضي ج.ب.؟ وهل رتب الأثر القانوني عليها؟ وهل استنطق المدعو ع.ب. ووجّه له الاتهام؟ وسعى الى كشف المسدس الذي استعمل لاغتيال الشهيد البراهمي؟ لا اثر لكل ذلك في أعمال التحقيق بالمكتب 12، في تلك الفترة!!! اي ان قاضي التحقيق بالمكتب 12 المكلف بملف الشهيد البراهمي بقي ايضا غير مطّلع على ما احتواه ملف التحقيق لدى زميله بالمكتب الثالث القاضي ج.ب. تماما كما بقي القاضي البشير العكرمي غير مطّلع ايضا على تلك الابحاث؟ فلماذا اصابع الاتهام بالتقصير واخفاء الحقيقة توجّه للعكرمي (تحقيق 13) دون التحقيق 12!؟
ماذا جرى اذن؟
اولا، التقصير نسب فقط الى القاضي البشير العكرمي، وكأن الامر لا يهم سوى قضية الشهيد بلعيد ولا يهمّ قضية الشهيد البراهمي!!!
ثانيا، بما ان الأبحاث تتبع قضية تحقيقية اخرى لدى قاضي تحقيق اخر (السيد ج.ب.) فمن أين للعكرمي او لقاضي التحقيق 12 ان يصلهما العلم بتلك الابحاث حتى يرتّب كل منهما الأثر القانوني عليها؟
هنا نصل الى مرحلة المغالطة الخطيرة والتي ستصدم كل محام او قاض يطلع عن كثب على تقرير المتفقد العام. أجاب العكرمي بأنه لا علم له اطلاقا بذلك المحضر المتعلق بالمدعو ع.ب. استظهر له المتفقد العام بشهادة زميله قاضي التحقيق المعني بالأمر ج.ب. بأن الاخير قد أعلم العكرمي بالمسألة (شدوا انفاسكم زملائي المحامين والسادة القضاة الان) أعلمه بذلك مشافهة!!! اي نعم مشافهة. هكذا حرفيا كما ورد في تقرير التفقدية.
سنستعرض لكم ادلة استحالة صدق رواية الاعلام الشفاهي بحجج مادية يستوعبها حتى غير المختصين في الإجراءات الجزائية.
1- الفصل 29 من مجلة الاجراءات الجزائية يوجب على قاضي التحقيق ان يخبر وكيل الجمهورية بما اتصل بعلمه من جرائم وان ينهي اليه كل المحاضر والأوراق والإرشادات المتعلقة بها.
لا وجود في الملفات لما يفيد ان قاضي التحقيق ج.ب. أخبر وكيل الجمهورية بمحضر المسدسين وبما نسب الى المدعو ع.ب. من تصريحات بشأنهما.
هل يمكن أن نتصور ان القاضي ج.ب. يجهل احكام الفصل 29 المذكور!؟ مستحيل، لان ذلك القاضي نفسه وفي إطار القضية نفسها لما اتصل بعلمه وجود انفار اخرين لهم علاقة مشتبهة بجريمة اغتيال الشهيدين بلعيد والبراهمي، تولى فورا اعلام وكيل الجمهورية كتابة بذلك واطلعه على تلك المحاضر وقام وكيل الجمهورية انذاك بالتأشير عليها واحالتها على كل من التحقيق 12 (جريمة اغتيال الشهيد البراهمي) والتحقيق 13 (جريمة اغتيال الشهيد بلعيد) للقيام بما يلزم، وهو ما تم فعلا. بينما غفل عن القيام بالإجراء نفسه بخصوص حكاية المسدسين.
2- لا يعقل ان يخبر القاضي ج.ب. زميله العكرمي بهذا المحضر المهم جدا، مشافهة، ولا يعلم زميله الاخر في مكتب التحقيق 12، ولو مشافهة، مع ان المسألة تهمه ايضا بالقدر نفسه التي تهم العكرمي، فهما مسدسان وليسا مسدسا واحدا استعمل الاول لاغتيال الشهيد بلعيد والثاني لاغتيال الشهيد البراهمي.
3- الاغرب والأخطر مما سبق انه بالاطلاع على قرار ختم البحث الذي اجراه قاضي التحقيق ج.ب. لا نجد فيه ولو اشارة واحدة لحكاية المسدسين، بل لا نجد فيه أثرا للمدعو ع.ب. المتهم المفترض انه أخفى المسدسين، فلا هو منصوص على اسمه كمتهم ولا كشاهد ولا اي شيء !!!؟ أيعقل ان يكون بحوزة القاضي ج.ب. محضر بمثل هذه الخطورة والاهمية، والذي يفترض أنّ باحث البداية اجراه بموجب انابه من ذلك القاضي، ومع ذلك لا يشير اليه قاضي التحقيق ج.ب. مجرد اشارة في قرار ختم البحث الذي اعده !؟ مَنْ الاولى بالاتهام بالتقصير وبالإخلال بواجباته؟ القاضي الذي لم يتعرض مطلقا في قرار ختم بحثه لمحضر اجراه باحث البداية في نطاق انابة صادرة عنه، ولم يخبر وكيل الجمهورية بذلك، حسبما يوجبه عليه الفصل 29!؟ ام العكرمي لأنه لم يطلع على محضر لم تتم الإشارة اليه اصلا في قرار ختم البحث في ملف القضية التي يحقق فيها زميله، ولم يقع اعلامه بمضمونه تماما كزميله المكلف بملف اغتيال الشهيد الثاني البراهمي رحمه الله؟
اي مختص في الإجراءات الجزائية سيكتشف بوضوح ان هناك فرضيتين لا ثالث لهما:
(1) إما أن القاضي ج.ب. لم ينتبه الى المحضر المتعلق بالمسدسين وغفل عن اعلام وكيل الجمهورية به، وغفل عن الإشارة اليه في قرار ختم البحث الذي اعده.
او
(2) أن ذلك المحضر لم تقع اضافته لقاضي التحقيق ج.ب. ابدا الى ان ختم البحث...
ثم حتى في صورة افتراض ان القاضي ج.ب. قد سهى عن الإشارة الى محضر إخفاء المسدسين في قرار ختم البحث وسهى عن توجيه الاتهام للمدعو ع.ب. فأين النيابة العمومية التي يفترض انها تتابع عمل قاضي التحقيق وتطلع على كل أوراق القضية، وتطعن بالاستئناف لدى دائرة الاتهام في كل اخلال قد يرتكبه قاضي التحقيق، كيف لم تنتبه النيابة العمومية ايضا لهذه المسألة؟ كذلك أين هي النيابة العمومية الكبرى بمحكمة الاستئناف لما رفعت القضية بعد ختم البحث فيها الى دائرة الاتهام للنظر فيها، فلا الوكالة العامة بمحكمة الاستئناف ولا دائرة الاتهام التي تعهدت بالقضية التي حقق فيها القاضي ج.ب. أشارت الى وجود محضر بخصوص شخص يدعى ع.ب. يرجح او من الثابت انه أخفى المسدسين وانه يتوجب التنصيص عليه بقرار ختم البحث وترتيب الأثر القانوني عليه!؟
كان يمكن للمتفقد العام أن يتعمق في هذه المسألة لكشف الغموض عنها وتحديد المسؤوليات المترتبة عن ذلك، لكن بما ان المشتبه فيهم في التقصير هنا، ليس من بينهم العكرمي. فقد تم القفز عن هذه النقطة بغرابة شديدة.
ثالثا: أوضح العكرمي في ردوده عن هذه التهمة الخاوية أنه اطلع على قرار ختم البحث لزميله ج.ب. في ثلاث مناسبات، بمقتضى محاضر اطلاع موثقة ومضمنة خلال الفترة من فيفري الى افريل 2014، وطبعا ما كان له ان يتعرض الى مسألة المسدسين لان المحاضر بشأنها لم يتم التنصيص عليها بقرار ختم البحث ولا حتى التلميح اليها ولا وجود لذكر اسم ع.ب. في قرار ختم البحث.
رابعا: المفاجآت لم تتوقف هنا، ففي اواخر عام 2016 طفت هذه المسألة على سطح الأحداث واستغرب بعض المتابعين من عدم توجيه الاتهام للمدعو ع.ب. في جريمة اغتيال الشهيد بلعيد، مع انه لم توجه له التهمة ايضا في جريمة اغتيال الشهيد البراهمي!!!، لكن التركيز كان فقط على العكرمي والقصف موجها لشخصه فقط، وقدمت شكاية ضد العكرمي فقط لتفقدية وزارة العدل. المهم ان السيد وزير العدل آنذاك امر الوكيل العام بالبحث في المسألة، فتم تعهيد دائرة الاتهام التي كانت تنظر في القضية المتعلقة باغتيال الشهيد بلعيد. ماذا فعلت دائرة الاتهام؟ لم توجه الاتهام للمدعو ع.ب. وانما طلبت من مكتب التحقيق 13 (قاض اخر خلف العكرمي الذي اصبح وكيل جمهورية وقتئذ، والذي كان متعهدا بالقضية المفككة المتعلقة بملف الشهيد شكري بلعيد وقد تم تفكيكها لاستيعاب المتهمين بحالة فرار في قضية تحقيقية مستقلة)، طلبت منه فقط سماع المدعو ع.ب. .
ما يهم في هذا الاجراء المتخذ من السيد وزير العدل عام 2016 ما يلي:
1- دائرة الاتهام نظرت في موضوع المسدسين والمحضر المتعلق بالمدعو ع.ب ولم تقتنع بتوجيه اي اتهام له رغم ان القانون يخول لها ذلك، بل اكتفت بطلب سماعه من قاضي التحقيق 13.
2- قاضي التحقيق 13 استمع للمدعو ع.ب. في عام 2017 وابقاه بحالة سراح واعتبره مجرد شاهد الى يوم الناس هذا.
3- في نفس يوم سماع ع.ب. من قاضي التحقيق 13 عام 2017، تمّ سماعه ايضا من قبل قاضي التحقيق 12 لما للأمر من علاقة باغتيال الشهيد البراهمي، وقد بقي ايضا بحالة سراح، ولم يتول التحقيق 12 اصدار بطاقة ايداع بالسجن في حقه الا عام 2019.
4- اهم نقطة ان السيد وزير العدل بالتوازي مع طلباته للوكيل العام كيفما تم بسطها اعلاه، فقد اذن للتفقدية بإجراء بحث في الموضوع لبيان ان كان العكرمي فعلا مقصرا، فانتهى تقرير التفقدية الى الاقتناع بثبوت عدم حصول العلم مطلقا للبشير العكرمي بالمحاضر المتعلقة بالمدعو ع.ب. وحكاية المسدسين، والتي تم اجراؤها بإنابة من التحقيق 3 (القاضي ج.ب)، كما بيّن تقرير التفقدية عام 2016 ان الخلل الاجرائي - على فرض وجوده - تم تلافيه بتعهد دائرة الاتهام بالنظر في الموضوع مجددا وهو تعهد لم يفض الى توجيه اي اتهام للمدعو ع.ب....
السؤال الاخطر: بعد كل هذه الحجج الدامغة التي تبين استحالة ان يكون العكرمي قد اطلع على موضوع ع.ب. وحكاية المسدسين، وتشكك اصلا في صحة تلك القصة اذ انه لا دائرة الاتهام ولا القاضي المتعهد بمكتب التحقيق 13 وجهوا - الى اليوم - اي اتهام للمدعو ع.ب. بخصوص هذه المسألة، اضافة الى سبق التحقيق من التفقدية في هذه المسألة وانتهاؤها الى نفي اي تقصير موجه للعكرمي، كيف بعد كل هذا يصبح العكرمي مقصرا ومذنبا في هذه النقطة؟
سيرشح من أوراق الملف ان المدعو ع.ب. نفى ما نسب اليه بشأن إخفاء المسدسين وزعم انه تعرض للتعذيب وقد قدم شكاية في ذلك منذ عام 2013، وتم استنطاق اعوان الفرقة الذين اتهمهم بالتعذيب من قبل قاضي تحقيق اخر ... وزعم ان لا علاقة له بمسألة إخفاء المسدسين.... لا ندري ان كان هذا يفسر الغموض الذي لفّ بالمحضر المتعلق بإخفاء المسدسين، وعدم اعلام وكيل الجمهورية به ولا الإشارة اليه في قرار ختم البحث الذي اجراه القاضي ج.ب....
هذا بالضبط ما استخلصه المتفقد العام وجاراه في ذلك نصف اعضاء مجلس القضاء العدلي معتبرين ان العكرمي قصّر وأخل بواجباته!!؟ فيما قصّر العكرمي؟ اي واجب اخل به؟ ما قد نتهم به العكرمي في هذا الملف - من باب الجدل والافتراض لا غير - ينطبق على زميله قاضي التحقيق 12 المكلف بالتحقيق في جريمة اغتيال الشهيد البراهمي، كيف يكون العكرمي مقصرا ولا يكون زميله مكتب التحقيق 12 مقصرا، وكلاهما لم يطلع على محاضر زميليهما ج.ب. غير المشار اليها حتى في قرار ختم البحث لهذا الاخير !؟ كيف يكون العكرمي مقصرا، والقاضي الذي يوجب عليه القانون اخبار وكيل الجمهورية بما وصل لعلمه من أخبار ومحاضر ولا يفعل ذلك يكون غير مقصر؟
هذه بالضبط ملابسات حكاية المسدسين وتلفيق تهمة التقصير في التحقيق فيها للسيد البشير العكرمي والذي رغم كل ما شرحه وقدمه من وثائق وحجج مثل قرار ختم البحث المجرى من زميله ج.ب. ومكتوب الاعلام الموجه من القاضي ج.ب. لوكيل الجمهورية بشأن بلوغ العلم اليه بخصوص مسألة اخرى ذات علاقة بجريمة اغتيال الشهيدين وكيف وجه وكيل الجمهورية ذلك الاعلام لقاضيي التحقيق 12 و13 للنظر، ومحاضر سماع المدعو ع.ب. عام 2017 من قبل قاضيي التحقيق 12 و13 وابقائه بحالة سراح دون توجيه اي تهمة له من قبل كلا القاضيين.... ومحاضر تضمين اطلاع العكرمي على قرار ختم البحث المنجز من زميله ج.ب. في ثلاث مناسبات لبيان مدى تدقيقه وحرصه على تتبع كل خيط موصل لإماطة اللثام عن تلك الجريمة الإرهابية الخطيرة باغتيال الشهيد بلعيد ... وبالرغم من كل ذلك فإن نصف اعضاء مجلس القضاء العدلي لم يقتنعوا ببراءته وانعدام اي موجب للمؤاخذة... ونحن كلنا شوق لمعرفة كيفية تعليل مجلس القضاء العدلي لقراره بترجيح شبهات الاخلال في جانب العكرمي بخصوص هذه النقطة.