قلة هم السياسيون الذين أحبهم الشعب التونسي حقا، لأن السياسة عادة ما تقترن بالمصلحة الذاتية التي تتضخم على حساب الشأن العام والمصلحة الوطنية. فأغلب السياسيين عادة ما ينطلقون في مسارهم السياسي بشعارات براقة ومغرية لكن سرعان ما ينكشف أمر أغلبهم حين يتذوقون امتيازات السلطة، وإغراء نفوذها فيتشبثون بها على حساب المبادئ المعلنة، وعلى حساب تنمية البلاد وتطويرها.
كان أحمد المستيري من بين قلة من السياسيين الذين تركوا بصمتهم في الحياة السياسية التونسية، فهو من الرعيل الأول الذي عاش مرحلتيْ المقاومة وبناء الدولة، وتولى حقيبة وزارة العدل في أول تشكيلة حكومية بعد الاستقلال.
هو من صفوة السياسيين لأن ممارساته واختياراته السياسية جعلته يصنف في ذلك المقام، في دولة حامية قامت منذ تأسيسها على الامتيازات والسلطة المطلقة للمسؤول، حيث تصبح نظافة اليد فيها عملة نادرة على عكس ما يتوقع، وكان المستيري رمزا في نظافة اليد فما يعرف عنه أنه كان الوحيد من بين الوزراء الذي يعيد إلى خزينة الدولة ما يتبقى له من منحة المهمة إثر كل عودة من مهمة رسمية، والمنحة حقٌّ يمكن الإبقاء عليه لكنه يخيّر إرجاعه دعما لخزينة الدولة.
والسياسة كذلك هي مواقف يحبذها الناس لأنها ما يبقى من السياسي عندما ينتهي مساره. وكان المستيري رجل مواقف تحسب له. فهو من عارض بصوت عال منذ ستينيات القرن الماضي عندما رأى أن سياسة التعاضد حادت عن مسارها المعلن وأضرّت باقتصاد البلاد.
وهو من استقال من وزارة الدفاع سنة 1969 في وقت تعني فيه الاستقالة تحدّيا لبورقيبة، لأن بورقيبة لم يكن يعتقد أن هناك وزيرا من وزرائه يمكن أن يستقيل، ولم يكن بورقيبة يقبل الاستقالة لذلك كان ينشر في الإعلام الرسمي أنها إقالة كما حدث في مناسبتين مع أحمد المستيري وحسيب بن عمار.
كذلك كان المستيري جريئا حين تحدى اختيار بورقيبة بتعيين أعضاء الديوان السياسي وتمسك بضرورة انتخابهم من المؤتمر شأنهم شأن أعضاء اللجنة المركزية. إلا أن صقور الحزب "انتصروا " وكلفه ذلك الطرد من الحزب صحبة جمع من رفاقه ممن عرفوا فيما بعد بالتيار التحرري.
ويتجذر موقف المستيري بتمسكه بالحريات فكانت الرسالة الشهيرة التي وجهها إلى بورقيبة صحبة نحو عشرين من رفاقه سنة 1976 في الذكرى العشرين للاستقلال والتي كانت درسا في معنى الحرية والاستقلال الفعلي للبلاد،
وكان تمسك المستيري بالتعددية الحزبية وإصراره على تأسيس حزب معارض في الوقت الذي خيّر عدد من رفاقه العودة الى حزب الدستور، كان اختياره من المواقف المبدئية التي جلبت له الاحترام لأنه أسّس بذلك للتعددية الحزبية المنافسة لحزب الدستور وعبّد الطريق لغيره ممن جاؤوا بعده وأسّسوا الأحزاب.
ثم كانت الجرأة في التنديد بتزوير الانتخابات سنة 1981 التي شاركت فيها حركة الديمقراطيين الاشتراكيين التي يتزعمها المستيري في كل الدوائر وبيّنت جميع المؤشرات أن الحركة فازت فوزا ساحقا في عدد من الدوائر ليفاجأ المراقبون بفوز حزب الدستور وسط ذهول شعبيّ قاد إلى السخرية بترويج الشعار الأكثر تداولا حينها وهو أن الانتخابات مثل الحنة تدخل الى صندوق الاقتراع خضراء (لون بطاقة حركة الديمقراطيين الاشتراكيين) لتخرج حمراء (لون حزب الدستور).
ولم تخن المستيري الشجاعة ليعقد ندوة صحفية ويعلنها بأعلى صوته: " إني أتهم " كما صرخ من قبل بنفس الجملة ايميل زولا j'accuse.
نعم اتهم النظام بتزوير الانتخابات وبإفساد التعددية عبر المضايقات الأمنية والميليشياوية التي تجلت في الحملة الانتخابية ويوم الاقتراع بتغيير بطاقات صندوق الاقتراع. وهو ما اعترف به في وقت لاحق سياسيون من داخل النظام في مذكراتهم وسيرهم الذاتية التي نشروها في شكل شهادات على ما جرى خلال العهد البورقيبي.
جرأة السياسي هي في الدفاع عن القضايا العادلة وهو ما فعله المستيري حين تمسك بالدفاع عن حقوق الإنسان وكان وراء تأسيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان سنة 1977 وكانت الأولى في افريقيا.
كما تجلت جرأته حين قاد مظاهرة ضد العدوان الامريكي على ليبيا سنة 1986 وكلفه ذلك الاعتقال والمحاكمات. وحين دافع كذلك عن المساجين السياسيين ووقف ضد رغبة النظام في الانتقام منهم. وقاد وساطات محلية وديبلوماسية في الغرض ساهمت في انقاذ سياسيين من حكم الإعدام.
وبما أنه من أصحاب المبادئ فقد كانت فرحته عظيمة بالثورة التونسية فأضاف ملحقا في مذكراته سماه "نداء إلى الضمائر الحرة والعزائم الصادقة"، عبر فيه عن ابتهاجه بالثورة، ورسم بعض الاختيارات الضرورية العاجلة، لكنه أردف ذلك الملحق ببلاغ اثر تشكيل حكومة محمد الغنوشي الأولى ليعلن رفضه صراحة دون مواربة عن تشكيل حكومة من بقايا النظام المخلوع كمحاولة صريحة للالتفاف على الثورة تفطن إليها مبكرا، وقال بالحرف الواحد: "لا يمكنني أن أسكت عن هذه العملية النكراء التي تعدّ انتهاكا صريحا لإرادة الشعب وللمكاسب المشروعة التي حققها خلال الشهر الأخير بجهده المستميت، ودماء شهدائه وكان لها الصدى العميق في العالم أجمع، وإني أدعو المواطنين أن يصدعوا باستنكارهم لهذا الصنيع المشين الذي يرمي إلى تنصيب نظام بن علي من جديد ، مع تغطية لا تنطلي على الشعب وقد أقدم عليها عدد من الأغبياء المغرورين".
ألم نقل إن من السياسيين معادن: معادن في نظافة اليد ومعادن في الاختيارات السياسية التي لا تميل مع الرياح حيث مالت وتبقى بوصلتها دوما في اتجاه مصلحة الوطن لا غير.
رحم الله الأستاذ أحمد المستيري وجازاه عما قدمه للشعب التونسي كل خير.