بركات السماء المفتوحة : إلى الزملاء والأصدقاء المحترمين.

لا شك أنكم تدركون أن الصنصرة أنواع كما مارسها القامعون للحريات. ثمة صنصرة على النوايا، وأساسها بروز خبراء في هيئات التحرير مختصون في قراءة نوايا الصحفيين، فيحتمون بالصنصرة قيل الوقوع في المحظور حسب تقييمهم. في مطلع هذه الألفية جاء زميل صحفي الى مقر جمعية الصحفيبن التونسيين غاضبا حائرا مندهشا وأعلن وسط زملائه:

سأعتصم هنا اعتصاما مفتوحا وسأضرب عن الطعام لأنني تعرضت إلى مظلمة غير مسبوقة. " إهدأ يا زميل، ويكون منك العقل، وحدثنا عن هذه المظلمة". طلب منه أعضاء من المكتب التنفيذي للجمعية.

قال وهو يكاد ينفجر من القهر: كتبت مقالا كلفت بإعداده في وقت سابق، وسلمته إلى سكرتير التحرير، لكنني تفاجأت من الغد بعدم نشر المقال بالصحيفة كما كان مبرمجا، استفسرت عن السبب، فقيل لي إن الأمر عند رئيس التحرير، توجهت إلى مكتبه ، وما إن دخلت مكتبه حتى بادرني بالقول غاضبا:

هاكا مقال تكتبو يا سي الشباب؟

ما به؟ سألته

قال: انت تلعبلي بخبزتي، لذلك أنا صنصرت المقال وقررت معاقبتك بالطرد ثلاثة أيام مع توبيخك،

قلت : كيف تعاقبني على مقال لم تنشره؟

قال: تصور لو نشر المقال ! فلن تجدني هنا و"سنتفرقع بكلنا"، وعليه وحتى لا تكتب مثل هذه المقالات ستعاقب.

هذه قصتي، قال الزميل مخاطبا أعضاء المكتب التنفيذي ، لذلك لن أتراجع عن اعتصامي لأنني عوقبت من أجل مقال لم ينشر وهي بدعة.

وهناك صنصرة عبر تعميم الرعب لدى أصحاب المؤسسات الإعلامية كأن تعاقب إحداها عقابا شديدا، أو تحرق مطبعة صحيفة أخرى (وحدث هذا فعلا)، فتصل الرسالة للجميع فيتوبوا توبة نصوحا عن النقد والجرأة والمطالبة بالحريات.

وثمة صنصرة برفع السبابة إلى السماء، فيحدث أن تتم صنصرة مقال، فيتوجه صاحبه مغتاظا إلى رئيس التحرير أو مدير المؤسسة متسائلا عن الأسباب ، فيرفع المدير وهو ليس في أحسن حالاته سبابته إلى السماء، وأحيان يضيف همسا خوفا من الجدران، من فوق من فوق… خاطيني، والله خاطيني.

وكلمة "الفوق" تفتح أبواب التأويل والخيال الرحب. وبطبيعة الحال تجعل مدير المؤسسة يتمسح على أعتاب الفوق حتى يرضى عنه ولا يتكرر الخطأ.

وثمة بدعة تجنب الصنصرة بالزيادة إرضاء لمن هو فوق، فكم من زميل يسلم مقالة إلى إدارة التحرير ويغادر ليتفاجأ عند نشره ، أنه أضيفت إليه جملا يعتبرها رئيس التحرير منمقات لغوية عن "صانع التغيير" و"ابن تونس البار" و"الانجازات الخارقة" إلخ إلخ إلخ.

وعندما يحتج صاحب المقال يكون الجواب جاهزا:

"بالله أما خير هكاك والي نصنصرو المقال؟".

"اش فيها هي ، شوية زينة وبرا".

فيندهش المسكين.

وثمة صنصرة على قاعدة "جوَّعهم يشدُّو الثنية"، فقد كان الاشهار / الإعلانات يستعمل سيفا مسلطا على رقاب المؤسسات الإعلامية، فقد فرض العهد البائد تجميع كامل الاشهار العمومي لدى وكالة الاتصال الخارجي التي دأبت على توزيعه كالمَنِّ، فيعطى المبلغ الأكبر لمن يبرز الولاء أكثر، ولفرض صنصرة أي مقال ناقد جريء.

ويحدث باستمرار وفق تكتيك محكم، أن يتم تخفيض مبلغ الاشهار لهذه المؤسسة الإعلامية أو تلك، فيحتار صاحب المؤسس في أمره ويتساءل: ماذا فعلت حتى أعاقب؟ وتتالى الأسئلة في ذهنه: ما هو يا ترى المقال أو الخبر الذي أغضب السلطات العليا وكان سببا في تخفيض المبلغ؟، لا يجد جوابا من أحد، قيقرر التراجع خطوات إلى الوراء في سقف الحريات، فتفتح الخزائن أمامه من جديد،

وهكذا تصبح المؤسسات الإعلامية تتنافس في إظهار مزيد من الولاء لتغنم أكثر، فالعطاء على قدر الولاء.

وثمة صنصرة الوقت الضائع، أي بعد صفارة الحكم، وهي الصنصرة التي تمارس في عهد السماء المفتوحة حيث لا راد لسرعة المعلومة وتدفقها، في هذا العهد تعمد سلطة إلى صنصرة مقال ورقي ، فتحقق نتائج عكسية بأن ينتشر المقال الممنوع على مختلف محامل منصات التواصل الاجتماعي، فيحقق انتشارا لم تكن تحلم به إدارة تحرير المجلة ذاتها.

هناك أنظمة لم تدرك بعد -أو لا تريد أن تدرك- أن السماء انفتحت بكامل اتساعها ولن تقدر أية سلطة على تغطيتها "بالغربال" حسب المثل الشعبي التونسي البليغ.

وأن قطار المعلومة الحرة انطلق بسرعة لافتة ولن تستطيع الصنصرة إيقافه مهما استعملت من أساليب. ستبقى بالية في كل الحالات ، لأن أساليب الصنصرة التي نفعت ما قبل الانترنات لن تنفع اليوم، بل هي تحقق نتائج عكسية لأن الحلم بالعودة إلى الصنصرة سيبقى أضغاث أحلام.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات