في سنة 2005، حين كنتَ مسجونا ظلما، كتبتُ عنك مقالا بجريدة الموقف بعنوان:"محمد عبو قاهر الصنصرة" لأنني اعتبر أنك سُجِنت جرّاء جرأتك النادرة حينها، فقد تمّ اختطافك في الطريق العام واعتقالك في مشهد أمنيّ استعراضيّ، بعد نشرك مقالتين جريئتين للغاية، الأولى بعنوان "أبو غريب العراق وأبو غرائب تونس" تقارن فيها بين ما ارتكبه الجنود الأمريكيون من فظاعات في حق العراقيين بسجن أبو غريب إثر احتلالهم العراق، وبين ما يُرتكب من تعذيب في السجون التونسية في عهد المخلوع.
أما المقالة الثانية فكانت بعنوان " بن علي - شارون" رفضا منك لدعوة رئيس الوزاء الإسرائيلي حينها أرييل شارون للمشاركة في القمة العالمية لمجتمع المعلومات التي احتضنتها تونس في نفس السنة.
مقالي بجريدة الموقف المعارضة أبكى زوجتك سامية عبو بكاء مرّا كما أعلمتني لأنّها رأت فيه إبرازا موضوعيا بل صادقا لمكانتك وجرأتك في مقاومة نظام قمعيّ فرض جدار صمت رهيب على كل الأقلام والألسن.
تلك صورتك التي رُسمت في ذهني، فدونتُها نثرا دون مبالغة. وتلك الصورة التي استمرت راسخة عندي إثر خروجك من السجن، والتحاقك بنا للمشاركة في اجتماعات هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات ممثلا عن حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، تلك الاجتماعات التي كنّا نعقدها سرّا في بيوت المناضلين لأنّ السلطة القامعة منعتنا من تنظيمها علنيّا.
ولعلك صديقي العزيز لن تنسى ذلك اليوم الذي كنا فيه نحن الاثنين في سيارتك في اتجاه بيتك بالوردية حيث كان سينعقد اجتماع لهيئة 18اكتوبر، لكننا عندما اقتربنا من البيت فوجئنا بالأمن باللباس المدني يطوّق كافة الأنهج المؤدية الى بيتك ومنعونا من الوصول إليه، حتى أنت لم يكن لك الحق في ذلك إلا بشرط وحيد هو أن أغادر سيارتك حتى لا ينعقد الاجتماع..
صرخنا في وجوههم، تمسكنا بحقنا في المرور، جادلناهم بالقانون والدستور، نزلنا من السيارة في حركة احتجاجية، تسمّرنا في الأرض لكن لا جدوى..
فالتعليمات التي تلقوها كانت واضحة وصارمة: لن تمرّا وحتى صاحب البيت لن يمرّ ولن يدخل بيته ما دام يرافقه عضو من هيئة 18 أكتوبر.
لن استمرّ في سرد الأحداث المشتركة التي عشناها معا منذ ذلك التاريخ إلى قيام الثورة لأنها عديدة، لكنها أحداث قفزت إلى ذهني بسرعة البرق حين علمتُ أن ممثّلكم بمكتب مجلس نواب الشعب صوّت لصالح عرض لائحة على الجلسة العامة، لائحة قدّمها حزبٌ يُعَدّ الوريث الشرعي للحزب القامع الذي سَجَنَكَ والذي ثار ضدّه التونسيون، لقمعه وفساده وسوء تصرفه في موارد البلاد بما عمّق الفوارق بين المناطق وفوّت على تونس فرص تنمية عادلة مستدامة.
لم أقتنع بالتفسير "القانونجي"، وليس القانوني الذي تمّ عرضه لتبرير موقفكم.. ففضلا عن كونه غير مقنع فإنك تعلم جيّدا أن ما يبقى من السياسة ليس تأويل القانون وإنما المواقف التي تُسجّل وترسخ في أذهان الناس جيلا من بعد جيل، وأنتم تنتمون إلى حزب نسج تاريخه من مواقفه الجريئة، فالذين رسموا لكم تلك الصورة وانتخبوكم بمقتضاها لن يقبلوا بأيّ تبرير أن تكونوا في نفس الخندق مع بقايا حزب سَجَنَك وقمعك ونكّل بك وبعائلتك وبحزبك.
المسألة الثانية وهي التي كان بإمكان حزبكم اعتمادها حتى لا يسقط في مثل هذا الفخ أن اللائحة في مضمونها لا تعني تونس، ولا مجلس النواب كذلك لأنها تدخل ضمن أجندات خارجية واضحة لدول تريد إفساد التجربة الديمقراطية التونسية بكل الوسائل بما فيها إغراقها في القضايا الهامشية والمفتعلة.
المسألة الثالثة هي أن دوركم كما أتصوّره هو الارتقاء بمجلس نواب الشعب وإبعاده بكل ما لديكم من وزن عن حرب اللوائح التي حادت به عن دوره ورسمت صورة سيّئة عن البرلمان لدى الرأي العام المحلّيّ والعربي والدولي، فضلا عن كونها أفسدت علاقاتنا الديبلوماسية مع دول نحن بأشدّ الحاجة الى تمتين علاقاتنا معها كما كان الأمر بالنسبة إلى الشقيقة ليبيا.
التناحر الحزبي بين أحزاب تنتمي إلى ائتلاف حكومي واحد لن يضرّ الائتلاف فقط وإنما سينسف التجربة الديمقراطية برمتها، ويُعبِّد الطريق أمام أحزاب قامعة حلمها الوحيد أن تعود المنظومة القديمة لتستبد من جديد بمفاصل الدولة، حينها أخي العزيز محمد نخشى أن نعود إلى حادثة السيارة، أو أن نكتفي بكتابة المقالات المندّدة بالقمع إن تمكّنا من ذلك.
صورتك لا تزال هي صورة ذلك السياسي المناضل، وعقلك أرجح من أن تسقط في المناكفات الحزبية التي تُجهز على المكاسب الديمقراطية، وإن كان هناك في حزبك من تنقصه الخبرة السياسيّة اللازمة، أو منهم كما يُروَّجُ من تسلّل الى حزبكم لتغذية العقليّة الاستئصاليّة، فدورك في التعديل أكبر، وتجربتك قادرة على أن تثمر تعايشا مع من يتقاسمون نفس الأهداف، وفق مبدإ النسبية الذي تقوم عليه الممارسة السياسيّة.