هل أن الشيخ - بمعنى السن وليس بالمعنى الديني- الصادق بلعيد حداثي وتقدمي وعصري اكثر من بورقيبة نفسه واضع دستور سنة 1959؟ أجزم كدارس لمسار بورقيبة وفكره أنه مستحيل ان يكون بلعيد - القادم على غير اهله بفعل فاعل- أكثر حداثة من بورقيبة، لذلك لا يمكن ان يزايد عليه بالحداثة والتقدمية بحذف فصل من الدستور كان محل توافق على امتداد اكثر من ستين سنة.
خلال جلسة المجلس القومي التأسيسي التي خصصت لمناقشة مشروع أول دستور للجمهورية التونسية سنة 1959، بلغ الخلاف اوجه بين المحافظين، وبين المحسوبين على الشق الحداثي ممن درسوا بالصادقية والجامعات الفرنسية.
وكان من الطبيعي ان يختلف التياران نظرا إلى اختلاف المرجعيات، حول موقع الاسلام من المجتمع وصيغة تضمينه في الدستور المرتقب.
وبعد نقاش طويل أعلن أحمد بن صالح - كما ذكر لي في احدى الحوارات معه- مقترح الفصل الأول من الدستور والذي ورد في النسخة النهائية بالصيغة التالية بالتشديد على وضع الفواصل المعبرة: "تونس دولة حرة، مستقلة، ذات سيادة، الاسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها".
وبالتأكيد فإن هذا المقترح كان بتنسيق مسبق مع بورقيبة الذي سارع إلى تأييده وأمعن في تفسيره ليرضي الطرفين ويضع حدا لجدل كان يمكن ان يقسم فريقه إلى شقين متصارعين.
كان بورقيبة يدرك أن منافع فصل دستوري بتلك الصياغة على المجتمع اكثر من ضره لأنه يوحّد المختلفين فكريا في ظرف كانت البلاد في اشد الحاجة إلى جميع ابنائها وقواها السياسية والفكرية لبناء الدولة المرتقبة في تونس المستقلة المتحررة لتوها من الاستعمار.
لكنه كان يدرك اكثر بثاقب نظره أن ضمير ال "ها" في عبارة "دينها الاسلام" لا يعود على الدولة وإنما يعود على تونس لأن بورقيبة يعتقد اكثر من الصادق بلعيد ان الدولة لا دين لها لأنها دولة مدنية محكومة باختيارات مسؤوليها الذاتية البشرية وليس بأوامر ربانية.
فواضح من خلال هذه الصيغة أن بورقيبة كان يشدد على ثلاث مسائل رئيسية بالنسبة إلى تونس وهي :
المسألة الأولى استقلالها لأن هناك في تلك اللحظة من يشكك في الاستقلال وخاصة غلاة الفرنسيين الذي عارضوا استقلال تونس ورفضوا تحديد موعد للانسحاب الكلي من ترابها.
المسألة الثانية هي عروبتها، لأن عروبة تونس كانت محل نزاع في اتفافيات الحكم الذاتي فأرادها رسالة واضحها لفرنسا أنه لا تنازل عن اللغة العربية وعن عروبة تونس .
أما المسألة الثالثة فهي الاسلام ( الاسلام دينها) والتنصيص على الاسلام لاقتناع بورقيبة ان الاسلام هو مكون الذاتية التونسية.
لذلك فإن السيد بلعيد عندما يحوّل ضمير ال "ها" من تونس إلى الدولة فإنه بصدد استغباء النخب والشعب وبصدد التعدي على بورقيبة والبورقيبيبن، بل اخطر من ذلك فهو بصدد السطو على مكسب توافقي صنعته اجيال من التونسيبن.
فضلا عن كل هذا النقاش الفكري السياسي الذي يمكن أن يطول، حول مقترح بلعيد الذي يقسّم التونسيبن بدل أن يجمعهم في مفترق مجتمعي خطير، فضلا عن ذلك فإن السؤال الأهم هو: هل هذه هي الأولويات التي اختير من أجلها بلعيد؟
فالبلد يعاني من أزمة اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة، ومن انهيار شبه كلي للقطاع العام، ومن انتشار للفساد والمحسوبية، ويحتاج الى مقترحات سريعة لمشاريع إصلاحية عاجلة، في انتاج الثروة، وفي تنمية رصيد المالية العمومية، وفي التعليم والصحة والنقل وغيرها من القطاعات المفلسة، فهل بتغيير الفصل الأول من الدستور سينتقل وضع البلاد من حال إلى حال.
ثمة جزء لا يستهان به من النخبة يصر دائما على الأولويات المعكوسة وعلى مصارعة الوهم. كما أنه عاجز عن الخروج من قوقعة الايديولوجيا، أو من ولاءات تجعله يرى الاسلام حكرا على تيار سياسي وليس مكون مجتمعي تاريخي مشترك.
اه يا بورقيبة لقد خذلك من يدعي ابوتك!!!!